الأحد، 29 يناير 2012

شهادة عبد الباري عطوان " بعنوان : الحكيم عندما يترجل "

  الحكيم عندما يترجل
                                                                                                                        عبد الباري عطوان
برحيل الدكتور جورج حبش، يكون الستار قد اسدل، وبشكل نهائي، على كوكبة من فرسان هذه الأمة، الذين بعثوا الامل فيها، وتمسكوا بثوابتها الوطنية، وارادوا لها مكانة متميزة بين الأمم.
حتي اللحظات الاخيرة من حياته، ظل الدكتور حبش متفائلا بقدرة هذه الامة على النهوض من كبوتها، مؤمنا بحتمية وحدتها، منتصرا لقضاياها، منحازا الي الضعفاء في مواجهة الاقوياء.
اسس أكاديمية عمادها التواضع، واحترام الذات، ونظافة اليد واللسان، واتباع ارفع انواع التهذيب في المعارضة السياسية، والابتعاد عن المبالغة، والتمسك بالصدق والحرص على الثبات والمصداقية في القول والموقف معا.
عاش حياة متواضعة في احد احياء العاصمة الاردنية عمان، يتلقي معاشا شهريا مقداره 300 دولار امريكي من الجبهة الشعبية، ولم يسجل مطلقا في كل ادبيات الجبهة انه طلب شيئا خاصا لنفسه او لأسرته، وانا اعلم شخصيا انه لم يكن يملك المال الكافي لإعداد مذكراته والاستعانة بباحثين لمساعدته على انجازها ونشرها بالشكل المطلوب، وتصنيف الوثائق المتعلقة بها.
 
سيدخل الدكتور جورج حبش التاريخ العربي ليس لانه مؤسس حركة القوميين العرب، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وانما ايضا كزعيم ترجل من سدة القيادة لافساح المجال امام اجيال جديدة لتأخذ دورها وتتحمل مسؤوليتها. فالرجل لم يعتزل القيادة في العام الفين، وانما قبلها بكثير، حيث كان يطالب صادقا، في جميع مؤتمرات الجبهة في السنوات العشر التي سبقت اعتزاله، بإعفائه من القيادة، ولكن جميع طلباته قوبلت بالرفض. لقد اسس سابقة، ونموذجا في العملين الثوري والحزبي، سيظلان ماركة مميزة له، تؤكد فرادته بين اقرانه.

لم يهادن الأنظمة العربية والديكتاتورية القمعية منها علي وجه الخصوص، ونأي بحركته عن المناصب والانقلابات، وفضل ان تظل دائما حركة قومية مقاتلة، ترتكز علي رصيد هائل من القيم والمباديء الاخلاقية، بعيدا عن الماديات، ومغريات السلطة.
ربما يجادل البعض بانه كان رومانسيا حالما، وان حركته كانت نخبوية مثالية، لم تقرأ المعادلات الاقليمية بشكل صحيح، ولهذا لم تضرب جذورها في عمق الطبقات الشعبية، ولم تصل الي قاع المجتمعات العربية، علي عكس الحركة الناصرية مثلا، وربما ينطوي هذا النقد علي بعض الصحة، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو عما اذا كانت الانظمة الاقليمية قد سمحت لها بان تنمو وتتطور وهي التي نصبت اسوارا شائكة لإبعادها عن القاعدة، وزجت بالكثير من ابنائها، اي ابناء الحركة، في السجون والمعتقلات، وأسست، ومولت، حركات مقاومة لتخريب العمل الفدائي الفلسطيني، وتشتيته، بل وحرفه عن اهدافه الحقيقية.
ورغم ان الدكتور حبش لم يدخل في المؤامرات والانقلابات مثلما فعلت احزاب قومية اخري، الا انه لم يسلم من مؤامرات وانقلابات هذه الانظمة التي زرعت بعض رجالاتها في حركته وجبهته، ونجحت في شق صفوفها، واستنساخها في اشكال متعددة بعيدة عن الاصل ومنطلقاته ومبادئه، ومن المفارقة ان جميع هذه المؤامرات جاءت من قبل انظمة ترفع راية القومية العربية وتتبناها كشعار جماهيري.

اختلف الدكتور حبش كثيرا مع رفيقه وخصمه ياسر عرفات، وكان المجلس الوطني الفلسطيني ساحة نزال ساخنة بين الرجلين، الاول يمثل توجها تصالحيا مع الانظمة، وقراءة واقعية للمعادلات الدولية حسبما كان معروفا عنه، والثاني كان صاحب مدرسة نضالية، لا تساوم علي الحق، ولا تبدي اي مرونة مع الاعداء، ولا تفرط بالثوابت، او ببعض منها ولو من قبيل التكتيك.
هذا الخلاف بين الرجلين هو الذي حفظ التوازن في الساحة الفلسطينية، وأطال في عمر منظمة التحرير وعزز صلابتها، وأبقى على الحيوية والديناميكية في العمل الفلسطيني، وقدم مثلا في التعايش تحت سقف الشرعية النضالية في محيط عربي مضطرب، وفي مواجهة عدو ربما يكون هو الاكثر شراسة في التاريخ الاستعماري الاستيطاني.
لم يخوّن جورج حبش مطلقا خصمه ياسر عرفات، ولخص بعبارته الشهيرة التي اطلقها في المجلس الوطني الفلسطيني بالجزائر، طبيعة العلاقة معه عندما قال مخاطبا إياه ويلي منك وويلي عليك . وكان بليغا في خصومته مثلما كان عظيما في محبته. فللخصومة اخلاق في قاموسه، وكان فعلا مضرب المثل في ذلك.
ثلاث محطات رئيسية في مسيرة الدكتور حبش لا يمكن تجاهلها، اولاها معارضته الشرسة لاتفاقات كامب ديفيد التى وقعها الرئيس الراحل محمد انور السادات، وثانيتها معارضته الاشد لاتفاقات اوسلو التى وقعها الرئيس الراحل ياسر عرفات في ايلول (سبتمبر) عام 1993، وثالثتها معارضته الحرب الامريكية على العراق في فصليها الاول والثاني.

بوصلته كانت دائما مصلحة الأمة، والوقوف في خندق اعدائها، والادارات الامريكية المتحالفة مع العدو الاسرائيلي على وجه الخصوص، ولم تخطيء بوصلته ابدا، فقد مزقت اتفاقات كامب ديفيد الصف العربي، وسجلت اتفاقات اوسلو سابقة اعتراف فلسطيني مجاني باسرائيل قاد اى كوارث جمة وما زال، اما الحروب الامريكية في المنطقة فقد دمرت العراق، ومزقت وحدته الوطنية، وقتلت الملايين من ابنائه حصارا واحتلالا، وكادت ان تطمس وجهه العربي.
رحم الله الدكتور جورج حبش حكيم الامة العربية، الذي جاء من رحم المعاناة الفلسطينية، ليجعل منها ركيزة نضالية للوصول الي الهدف الأسمى الا وهو الوحدة العربية الشاملة على اسس الكرامة القومية المتسامحة.
انحاز الحكيم دائما الي الفقراء الذين فتح عيادة مع زميل دربه وديع حداد في مخيمات عمان لعلاجهم، وسيحل اليوم ضيفا الي جانبهم في مقبرة الشهداء رفاق مسيرته النضالية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق