شهادة أنيس الصايغ عن الحكيم د جورج حبش
لا ضرورة أن تكون عضواً في حركة القوميين العرب منذ مطالع الخمسينات من القرن الماضي حتى تعرف عن كثب الدور الرائد للدكتور جورج حبش في تأسيس أول وأنجح تجمع قومي وحدوي يعتد نشاطه إلى أكثر من نصف أقطار الوطن العربي ويضم الآلاف من المثقفين وخريجي الجامعات ومن عناصر وقوى الشعب العامل وجماهير الأمة , ولا ضرورة لأن تكون عضواً في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين منذ أواخر ستينات القرن المنصرم حتى تلمس جهد الدكتور جورج حبش وحرصه الشديد على تنظيم العمل الفدائي الفلسطيني وعلى تفعيله وعلى تجنيبه المخاطر والمزالق والتجاوزات التي عانى منها ذلك العمل وأوقعه في مطبّات وانتكاسات نالت من فاعليته وحدّت من آثاره .
ولا ضرورة لأن تكون زاملت جورج حبش وهو بعد على مقاعد الدراسة في الجامعة الأمريكية في بيروت أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات حتى تتعرف على خصال ومناقب ومواهب تحلّى بها هذا الطالب وجسدتها تصرفاته وعلاقاته مع زملائه وأساتذته .
ولا ضرورة لأن تقرأ ما كتب من مقالات وتوجيهات وتستمع إلى ما ألقى من محاضرات وخطب في عشرات الأندية والمجالس والمناسبات حتى تطلع على فكره الواضح والصافي وعلى صحة استنتاجاته وموضوعية تحليلاته وسعة معلوماته وحدّة استشرافاته .
هذا هو جورج حبش . إنسان أوسع من فرد , وتأثيره أوسع من محيطه , من مكانه وزمانه المباشرين , إنه, بشخصه وفعله , أثر يمتد طويلاً في الزمانين الحاضر والمستقبل وفي عالمي الوطن وعبر حدود الوطن. تسطو العروبة على فلسطينيته مثلما تسطو الإنسانية على عروبته , لذلك امتزجت نضالاته الفلسطينية من أجل التحرير الناجز لكامل التراب الفلسطيني مع نضالاته من أجل بناء الكيان الواحد الموحد . وكانت فلسطين " من البحر إلى النهر " جزءاً عضوياً من عروبة " من المحيط إلى الخليج " وكذلك أيضاً كانت لحمة النضال الفلسطيني الوطني والعربي القومي وجوهره مستمدين من القيم الإنسانية الأزلية , الحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة والصدق والحق والخير .
ومن أجل بناء هذه القيم وصيانتها في الوطن العربي دعا إلى إقامة الكيان العربي الموحد , ومن وحي هذه القيم والتزاماً بها جاهد من أجل تحرير فلسطين وصد العدوان الصهيوني وإعادة شعبها المتطلع إلى منابته وبناء الدولة الفلسطينية الديمقراطية على امتداد الأرض الفلسطينية حسب حدودها الدولية المتعارف عليها دون أي اعتبار لقرارات دولية وإرادات أجنبية تحابي العدو الصهيوني وتحميه وتعينه وتسنده بالسلاح والمال وبالمواقف السياسية والدبلوماسية .
إذن فإن نضال جورج حبش من أجل تحرير فلسطين لم يكن في الحقيقة مسعى ثأرياً وانتقاماً عصيباً من عدو مغتصب للوطن. ولا كان إيمانه الوحدوي تزمتاً عنصرياً ولا انكماشاً منغلقاً من عالم مترابط الأجناس والحضارات والعطاءات .
بل كان الاثنان انعكاساً طبيعياً لتلك القيم الإنسانية والأبدية والعالمية التي اعتنقها نظرياً ومارسها عملياً , قيم الحق والخير والجمال والحرية والمساواة .
هذه عالمية جورج حبش التي كثيراً ما يخفيها عن أنظار الناس من مؤيدين له ومعارضين , صلابته وعناده في مقاومة الصهيونية والاستعمار والتجزئة والانعزالية والرجعية . فقد أدرك حبش أن كلاً من هذه الأصنام التي أعلن عليها الحرب منذ فتوته حتى وفاته , أي على مدى ستة عقود , إنما هي تتعارض مع كل القيم في أي زمان أو مكان وأنه في عمله السياسي , إنما يخدم قيماً إنسانية مطلقة لا يفرضها زمان ولا يستأثر بها مكان .
لقد أتيح لي أن أتعرف على جورج حبش ونحن على مقاعد الدراسة في الجامعة الأمريكية , وكان بحكم العمر يتقدم علي في الدراسة سنتين أو ثلاثاً . وكان بحكم التخصص بعيداً عن الصفوف التي أرتادها . فهو يدرس الطب وأنا أدرس العلوم السياسية والتاريخ . ولكن المسافة الأبعد في تجربتنا إنما كانت في المواقف السياسية والانتماءات الحزبية . فحينما كان حبش آنذاك يمر في أطوار إنشاء الجماعات السرية التي التقت فيما بعد بحركة القوميين العرب كنت عضواً في الحزب السوري القومي الاجتماعي وكنت أتسلم بعض المسؤوليات الحزبية في صفوف طلبة الجامعة . وهو الأمر الذي أدّى عملياً , إلى مواجهات سياسية وعقائدية وإلى مواقف متعارضة في التفاصيل والشكل وليس في الجوهر . فالمطالب التحررية والوحدوية وعداء الصهيونية و"اسرائيل" كانت واحدة . لكن محاولات السعي للحصول على أكبر نسبة من المقاعد في جمعية العروة الوثقى أو مجالس الطلبة لم تكن تفرّق بيننا فحسب بل كانت أحياناً تتحول إلى نزاعات بل وصراعات حادّة ومواجهات عنيفة .
وكانت "المعارك " الانتخابية بيننا , أي بين القوميين العرب والقوميين السوريين, هي العنصر الأقوى في المعارك الانتخابية بين صفوف طلبة الجامعة في تلك السنوات, أي النصف الأول من خمسينات القرن الماضي . إذ أن دعاة الاتجاهات الحزبية الأخرى ( أي الشيوعيين والإسلاميين والكتائبيين والبعثيين ) كانوا آنذاك أضعف من أن يشكلوا قوى يهابها القوميون العرب والسوريون .
في هذا الجو الطلابي المسيّس كان جورج حبش ينتصب بقامته الجسدية والعقلية عنصراً مهيباً وناشطاً متميزاً , يعترف له المعارضون كالمؤيدين بشخصية قوية وحجة دامغة ودماثة نادرة وصفاء واضحاً وصدقاً نقياً . وكان بالتالي يكسب المعارك الانتخابية كلها , جولة بعد أخرى , ولكنه كان أيضاً يكسب ثقة الطلبة وإعجابهم على الرغم من الاختلافات السياسية والحزبية ,وكان فوزه هذا أهم من فوزه بعدد لا بأس به من المقاعد في هذا المجلس أو تلك الجمعية .
إن ستين عاماً من التجارية السياسية لم تبدّل رأياً في جورج حبش بالنسبة إليّ والى أمثالي من زملائه في الدراسة . بقي جورج حبش بقامته الشامخة , عقلاً وفكراً وقلباً, وفي مراحل النضال الحزبي والسياسي والوطني والمطلبي , كما كان وهو بعد طالب يسعى لنيل شهادة الطب , لم يتغلب عليه أي من الضربات القاسية التي تعرّض لها في عقود نضاله الستة , تعرض لها كشخص أو كقائد, أو تعرض له فصيله أو حزبه, أو تعرض لها شعبه الفلسطيني وأمته العربية .
إنها عقود ستة تتوالى فيها الضربات القاسية الكفيلة بأن تحطم إنساناً عادياً : انقسامات في الحركة , وانشقاقات في الجبهة ( وما كان يرافق ذلك من حملات ظالمة وطعنات في الظهر ) التواءات وانحرافات في قيادة العمل السياسي الوطني والقومي , الفلسطيني والعربي, تخاذل رسمي تحاول أن تغطيها حملات الكبت والقمع والمنع ( وكان حبش وتنظيمه أول وأكثر من تعرّض لها في أكثر من قطر عربي ) هزائم عسكرية للأنظمة العربية أمام تعديات العدو "الاسرائيلي" وتوسّعه على أرض فلسطين كلها وفي أراض مجاورة , التفاف دولي حول " اسرائيل" ودعم لها في كل المجالات على حساب الفلسطينيين والعرب عموماً. وكأن المصائب لا تأتي فرادى . وكان على جورج حبش أن يقع ضحية عدوان آخر , صحي هذه المرة , فيقعده المرض طويلاً ويحدّ من حركته ونشاطه الجسدي . لكن حبش الجبار دائماً أمام الآخرين , بقي جباراً أمام نفسه أيضاً . قبل تحدي المرض ونازله بعناد وإن بحركة مشلولة , مثلما قبل تحدي الأنظمة والمنحرفين , وتحدى العدو الصهيوني والأمريكي , فصمد في مقارعتهم ولم يقو أي من الخصوم والأعداء على النيل من عزيمته أو التأثير في قراراته المنعكسة عن ثوابته .
هذه الصفحات وغيرها في جورج حبش هي التي تجعلنا نحن الذين عاصرناه وعرفناه نعتبره بدون مبالغة ولا محاباة , مدرسة حية متكاملة وليس مجرد فرد قاد جماعة والتزم بقيم وعاش مبادئه وأفكاره .
جورج حبش مدرسة للآلاف من بني جيله ومعاصريه , وبعضهم لم يعرفه شخصياً ولا انضوى تحت لواء فصيل يتزعمه ومدرسة لأجيال قادمة تتعرف على خلفية العمل الوطني والقومي ومناقبيه من خلال التعرف على سيرة مواطن فذ اسمه جورج حبش .
وإذ أعطي هذه الشهادة لرجل لم يكن يوماً بحاجة إلى شهادات الآخرين بل كان الآخرون يتمنون لو يحصلوا منه على شهادات في أعمالهم وتصرفاتهم وأفكارهم , أنتهز الفرصة وأستغل بعض جرأة لا أملكها دائماً , فأتطرق إلى موضوعين قد يحسبهم المرء خارج ما هو مطلوب في شهادة مثل هذه .
الموضوع الأول : هو مذكرات جورج حبش , هل يجوز لرجل عظيم ومساهم قوي في تاريخنا السياسي ونضاله المعاصر فلسطينياً وعربياً أن يرحل بعد أكثر من ثمانين عاماً قضى معظمه مخططاً ومبدعاً ومفكراً ورائداً دون أن يترك مذكراته ولا ذكرياته وبدون أن ينشر أوراقه ووثائقه ومراسلاته ومخططات مشاريعه ومسودات أفكاره ؟ وإن جاز لجورج حبش ذلك فلمن يبقى حق وواجب كتابة المذكرات ونشر السير الذاتية ؟
أنا أعرف ويعرف كثيرون غيري إن إشكالات حصلت في السنوات العشر الأخيرة حول أوراق حبش خصوصاً الحركة والجبهة عموماً , حول مكان وجودها وحفظها وحق الاستفادة منها ومسؤولية نشرها بعد تفحصها ودرسها واستنطاقها .
وهي إشكالات زاد في حساسيتها أنها أثيرت بين أشخاص أو جماعات قريبة وتتميز بعلاقات حميمة معه .
وأعرف ويعرف غيري أن الكثير من الأوراق والمحفوظات رأى النور في كتب صدرت مؤخراً أو هو في الطريق إلى أن يرى النور في كتب ومذكرات ستنشر في المستقبل غير البعيد .
غير أن هذا كله لا يبرر ولا يفسر ولا يعلل غياب كنز سياسي ونضالي وتاريخي وأدبي عنوانه " مذكرات جورج حبش " أو أي عنوان آخر يعطي المعنى حياة الرجل وتحت إشرافه , فإن مؤسسات ثقافية وطنية وقومية , فلسطينية وعربية , مدعوة هي أو إحداها أن تبادر إلى إجراء الاتصالات اللازمة مع أصحاب العلاقة المباشرة ( خاصة أسرة الراحل والقيّمين على بعض الأوراق والوثائق , وكلهم من رفاق حبش أو تلاميذه أو مريديه, ممن هم في الواقع أفراد في الأسرة بمعناها الوطني الواسع) . وذلك لإيجاد صيغ عملية تتناسب مع أهمية المذكرات وخطورة حياة حبش ليصار إلى دراسة الوثائق والأوراق وأعدادها للنشر في أفضل صورة وأقرب وقت وأكمل وجه .
وموضوع المذكرات يقودني إلى الموضوع الحرج الثاني , وهو علاقة حبش بوديع حداد, وقد نشأ جيلنا منذ أواخر الأربعينات ومطالع الخمسينات من القرن الماضي, ولمدة تقارب الثلاثين عاماً, على وجود ثنائية متراصة ومتكاملة وموحدة اسمها " الحكيمين" الدكتور جورج حبش والدكتور وديع حداد .
درس الاثنان معاً . وتخرجاً معاً وعملا معاً وفكّرا وآمنا وخططا معاً .
وانتهجا سبيلا واحداً في دروب النضال حتى أصبحا شخصاً واحداً تقريباً على ما بين أي علمين مبدعين من اختلاف في الطبع أو في بعض مكونات الإنسان أي إنسان كانا في الواقع مثالاً يحتذى للشراكة الحقيقة , المخلصة والصادقة والمضحية والثابتة والمستقيمة والشفافة, بين رفيقين نذر كل منهما نفسه ( حياته ووقته وكفاءاته وسعادته وراحته وإمكاناته وقدراته وعلمه) من أجل قضية مشتركة واحدة .
إن الكتابة عن أي من " الحكيمين " لا تتم إلا من خلال ودرس الآخر .والوفاء لأي منهما لا يكمل إلا بالوفاء للآخر . والتعرف الصحيح علي أي منهما , تاريخياً وسيرة وفكرة وممارسة , لا يصح إلا بالتعرف على الوجه الآخر للورقة نفسها . أي " الحكيم " الآخر .
ولعل أهم وأبرز ما في ما يؤدي إليه هذا التعرف المزدوج هو اكتشاف أصالة كل من حبش وحداد وصدق معدنه وطيب نفسه وصفاء خلقه من خلال العلاقة بينهما بعد أن فرقت وجهات النظر بينهما في فترة من الزمن وجعلت كل منهما يسلك سبيلاً عملياً مستقلاً عن الآخر وإن تلازم السبيلان وتوازيا , من جهة وإن بقي الهدف العام والنهائي واحداً . وإذا كانت علاقة حبش بحداد أمثولة في الرفاقية بين القيادات لمدة طويلة من عملهما المشترك في الحركة والجبهة , فإن هذه الأمثولة هي نفسها في العلاقة بينهما بعد ان اختلفت المسالك العملية وتعددت دروب النضال وتباعدت التجارب والممارسات . ظل الرجلان بعد " الفراق" النسبي ما كانا عليه أيام المشاركة الموحدة . وعلى من يدرس وديع حداد في المستقبل أن يعي هذه المسألة ونحن ندرس هنا جورج حبش . وهل من فضيلة أرفع وأنقى للمناضل من فضيلة الإخلاص والوفاء وصدق التعامل والترفع عن الصغائر والحساسيات وتعدد وجهات النظر ؟ لننظر إلى حبش من خلال تفحصنا لعلاقته مع حداد , ولننظر إلى حداد من خلال تفحصنا لعلاقته مع حبش , لنتعرف على كل منهما تعرفاً حقيقاً صافياً وصادقاً , ولنرى كلا منهما في أصدق صور شخصيته وأصالته ومشاعره وأحاسيسه ومثله .
أنيس الصايغ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق