الدكتور جورج حبش، القائد الجليل
هل رحل أم رحل المشروع الذي يمثل؟
الرجل الكاريزماتي الذي كان يرى أبعد من السطح، ويسبق غيره في التفكير
أحمد قطامش - رام الله
أن أبوح في لحظة تفجُّع إنما تختلط خفقات قلبي بمداد كلماتي. لقد هممت من قبل غير أن قلمي لم يسعفني.
إلى روح صديقي الكبير التي تجلجل في أعماقي، إلى الرجل الرسالة الذي جعلني أعيش حالة انخطاف على امتداد زمني الواعي، فكان عنصراً فاعلاً في صنع صفحات من تاريخ أمتنا في مرحلة هبوب رياح التحرر القومي، وعنصراً متصديا لمرحلة الردة وحراكها الطبقي اليميني، وثائراً طليعياً، على الزمان والمكان اللذين نجما عن التطهير العرقي وعذابات شعبنا المشرد فامتشق راية الكفاح العنيد في زمن الهزيمة والذلة متجشماً ببطولة أسطورية تحديات ومخاطرات أن يكون في المقدمة والاستدارة بشعبنا من طوابير الإعاشة إلى كتائب الفداء في سبيل قضيته العادلة في الحرية والكرامة والعودة. (هدفنا النهائي تحرير أنفسنا وغيرنا) وبلغة بول فريري (ثورة المقهورين تحررهم وتحرر قاهريهم) في (دولة ديموقراطية) علمانية، يعيش فيها العرب واليهود بمساواة وأخوّة حقيقية).
وعلى مدار ستة عقود، انغمس الحكيم، بجماع شخصيته. وكما وصفته مجموعة فرنسية (لم نعرف قائداً أخلص وتفانى كما أخلص الحكيم وتفانى) سائراً على الأشواك والألغام في منعطفات شتى، ومخاضات كبرى، اتسعت للمد والجزر، لمؤامرات الذبح السياسي والذبح العسكري، للحصار الخانق وتلاعبات الأخوة الأعداء. فمحايثة الحكيم أن يكون حيث يكون التمرد والثورة، ولكن ليجسد حالة من الرقي والإبداع وغزارة الخيال.
لقد اختبر حياة السجون وحياة التخفي، وعاش طريداً مستهدفاً سنوات وسنوات، لا يستقر على حال، تشاطره زوجته أم الميس رحلة اقتحام السماء وقلق الوالدين على ابنتيهما. عمل بطاقة جيش، الليل والنهار، لأنهاض إرادة المقموعين في أزقة المخيمات، ودروب الجوع والأوساط المستنيرة في رام الله والقدس وعمان وبيروت ودمشق، وطاف في عواصم الدنيا لاستدراج التأييد (إنني أغبطكم فالمرأة الفلسطينية هي الوحيدة التي تزغرد على استشهاد ابنها فقضيتكم أعدل قضية) أعلن رئيس اتحاد الكتاب الأتراك أمامه. رأى بأم عينيه جثث أبناء مدينته اللد، وجثامين الشهداء في مخيم الوحدات وتل الزعتر... والقافلة طويلة.. وفي الذكرى 40 لاستشهاد تغريد البطمة عام 81، وقف خطيبا غير أن قلبه المرهف ودماغه الذي ينوء بالأحمال لم يقويا على الاحتمال. فمن المنصة إلى المستشفى، ومن مشفى في بلاد عربية إلى مشفى في بلاد أجنبية (إنه يقاوم بإرادته لا بجسمه ثمة قضية تشغلة) جاء في التقرير الطبي.
مسيرة الحكيم ملحمية، نقلت الأسطورة الإغريقية إلى رواية واقعية من لحم ودم، ما أن يخرج من معركة حتى ينخرط في أخرى، تحركه الأحلام، فهو حالم عظيم، وكما العنقاء يخرج من تحت الرماد (لماذا لم أستشهد في بيروت، لقد سحبوني مرات من خط القتال؟) وكما طائر منيرفا الذي لا يأتي إلا عند الغسق، فإن حكمة الحكيم وخبرته وحسه التاريخي قد تكونت بتدرج عبر خط تركيمي مديد وعاصف.
وفي اشتداد الظروف أو سهولتها لم تتعوّم لدية خارطة الوطن أو تختزل. وبقي مزيجاً من رجل الفكر ورجل السياسة ومن حملة المبادئ بل وصانع مبادئ كبير. وعلى غرار ماركس (إياكم والتنازل النظري، إياكم والمساومة على المبادئ) نحت مقولته (لا ينبغي أن ينتهك التاكتيك الإستراتيجية، ولا ينبغي أن تنتهك السياسة الأيديولوجية) لأنه (يمكن التغلب على هزيمة عسكرية ويمكن التغلب على هزيمة سياسية، أما الهزيمة الثقافية فهي أمّر وأقسى). وكتب عن القانون المؤقت لازدواج السلطة فإما أن تطيح الحركة الثورية بالنظام الرجعي أو العكس، وقد ميز شأن دوبرية بين الأزمة الثورية حيث ينشب الصراع دون حسم وبين الوضع الثوري حيث يسحق طرف الطرف الأخر.
وكعقل نظري فذ كان يستقرئ ويستخلص: فنكبة 48 (كشفت عن عجز الأنظمة التقليدية وتواطؤها ) نصف الإقطاعية نصف "البرجوازية" وجاء رده بتأسيس حركة القوميين العرب وقيادتها بطابعها الديموقراطي الثوري وتصنيفه (الرجعية العربية ضمن معسكر الأعداء). وأن العلاقة معهما صراعية. أما هزيمة أنظمة البرجوازية القومية وبرامجها عام 67 فقد حفزته مع عوامل أخرى للانتقال (إلى مواقع اليسار الماركسي الثوري) وتأسيسه وقيادته فصيلة فدائية هي الجبهة الشعبية مستخلصاً (لقد سقط الدور القيادي للبرجوازية القومية دون أن يسقط دورها التاريخي) أما القانون الذي يحكم علاقتنا معها فهو (التحالف والصراع) (وليس لدينا هانوي العرب لكي نأتمنها على مسيرتنا). رغم علاقته الوثيقة بالرئيس عبد الناصر وانتظام لقاء فصلي بينهما منذ عام 1964.
ومع انتقال شرائح وقيادات برجوازية عربية إلى الأرضية الامبريالية – الصهيونية في السبعينيات، وانعقاد مؤتمر جنيف عام 74، واتفاقية كامب ديفيد عام 78 أنشأ (في مواجهتنا للمخطط الامبريالي إنما نستند للسلاح القومي والسلاح الطبقي. علينا التصدي للبرجوازية المستسلمة وقطاعات من البرجوازية الكومبرادورية المتحالفة مع الامبريالية والصهيونية ضد الجماهير الشعبية الكادحة)، (إن لسياسة كامب ديفيد جذوراً اقتصادية. ورغم دور السادات الشخصي فهي محصلة عوامل اقتصادية – اجتماعية..) في ربط بنيوي بين الطبقي والقومي (لأن من أسلحة الامبريالية ضرب الفكرة القومية العربية، وضرب الفكرة القومية العربية يعني ضرب الجبهة القومية العربية، وقضية الوحدة بآفاق تقدمية)، (لقد غدت مهمات الثورة الوطنية الديموقراطية بآفاق اشتراكية مهمة الجماهير الشعبية) بما يحيلنا إلى غرامشي عن (الكتلة التاريخية التقدمية) وسمير أمين عن (الطبقات الشعبية).
أما فلسطينياً، (فبعد تفكير عميق) وهذا تعبير يتردد في ثنايا خطابات وأحاديث الحكيم توصلت إلى (أن أهدافنا الوطنية غير قابلة للانتصار بقيادة اليمين البرجوازي). نعم (لقد تصدرت البرجوازية الكفاح المسلح وكانت صادقة... لكن أمام صعوبات المسيرة بدأت بالتراجع البرنامجي مرحلة بعد مرحلة... وهي تراهن أن تخرج بشيء وهذا الشيء ستقدمه للضفة وغزة، وستنظر بعض القطاعات أن هذا الشيء هو الشيء الوحيد الممكن). قال هذا الكلام قبل أوسلو بعقد، وأضاف في 1/1984 (أن العناصر المتنفذة وصلت لقناعة: لقد بذلنا كل شيء ولنأخذ ما يمكن أخذه... إن لديها استعدادات حقيقية للتعاطي مع الحلول الأمريكية، في الوقت المناسب).
والحكيم الذي استخرج قانون (الوحدة والصراع) في إطار م.ت.ف كإطار جبهوي وطني أشار في خطابه أمام اتحاد الكتاب الفلسطينيين في نيسان 84 (هناك طبقة بأكملها تريد تعريب كامب ديفيد... إما أن تبقى م.ت.ف على أرضية وطنية أو تنتقل للأرضية اللاوطنية) واستخلص نظرياً (بأن البرجوازية الفلسطينية وبرامجها لم تعد قادرة على تحقيق الدولة والأهداف الوطنية) وبعدئذ تعرض لليسار نقدياً.
لم يتقلب ولم يتزحزح عن تقييمه للامبريالية الأمريكية فهي (رأس الحية) و(معادية لتقرير المصير والقضية العربية) و (حليف استراتيجي للسياسات الاحتلالية العنصرية) ولم يرتهن لها ولم يلهث لاسترضائها ولما صادف شقيق كارتر في ليبيا قال له (اننا لا نخاف أمريكا) منسجما مع كاسترو الذي تحدى الإمبراطورية بدأب (لا نفع من الرأسمالية، في شجرة متعفنة الجذور، لا ينبت منها إلا أسوأ أشكال الفردية والفساد واللامساواة) و (نغرق الجزيرة في البحر ولا نسلّمها للامبرياليين) و (هناك 30 شركة عالمية تحتكر 70% من السوق العالمية) هيكل، بما يتناغم مع المنظور اللينيني عن (الامبريالية المتعفنة، مشعلة الحرائق والحروب لاقتسام العالم، وإعادة اقتسامه بين ضواري رأس المال) بل وأصبحت أكثر بربرية في مرحلة العولمة وإمبراطورية الاحتكارات. لقد شكل ألحكيم عقبة حقيقية، على امتداد عقود، لمنع الساحة الفلسطينية من التكيف مع الاشتراطات الأمريكية.
وفي زمن الجيشان الانتفاضي 87 – 90 أستخلص (لقد انتقل مركز ثقل النضال الوطني للداخل بما يحمله ذلك من معاني سياسية، واستحقاقات تنظيمية) وكرر شعار الانتفاضة (لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة) ورفض المساومة عليها أو تثميرها سياسياً بما يعاكس شعارها بالحرية والاستقلال، ولم يتردد في السير بعيداً عن نهج أوسلو وتراكيبه السياسية مثلما رفض المشاركة في انتخابات "التشريعي" 96.
الحكيم مسيرة تاريخية، براكسيس متشعب، تاريخ يمشي على قدمين، يفعل وينفعل في آن، في جدلية متصاعدة، وحيثما وطأ إنما يسترشد بمقولة ماركس (إننا لا نعترف إلا بالتاريخ وعلم التاريخ) وينخرط حد النخاع في الراهن وتعقيداته ومعاركه الفكرية / السياسية / القتالية مترسماً طريق صنع المستقبل. فهو ليس أكاديميا نرجسياً تستهويه الشعارات المجردة التي تنتمي إلى فصيلة انزياح الواقع، بل هو في قلب المعمعان، يتحد في ممارسته الفكر والعمل، محافظاً على حماسه اللحظة الأولى (خاصية مشتركة مع كاسترو الذي استقبله بسيارته في المطار) وكأنه بركان معنوي لا يعرف الخمود. وكرئيس للمركز البحثي (الغد العربي) الذي شاركته عضوية مجلس الأمناء مع الرئيس السابق بن بيلا، والدكتور بلقزير، والدكتور برقاوي، والراحل الدكتور عبد الشافي... حادثته هاتفياً عشرات وعشرات المرات، وفي أحلك اللحظات، وأكثرها إرباكاً سيما ودينامية تفكيكية تغوص عميقاً في المشروع الوطني والشعب الفلسطيني إلى حد تباين أولويات تجمعاته، وما طرأ على المقولة الحزبية من تفكك وانكماش كان على الدوام صافي البصيرة، رابط الجأش، يعثر على عناصر تبعث على التفاؤل، تستهويه كلمات غرامشي عن (تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة) مستدعياً لوحة التناقضات وصيرورتها وكلمات هيجل (إن إمكانات التاريخ أوسع من الواقع)، فهو يراهن على الممكن التاريخي (فمشكلتنا –كيسنجر- مع الفيتناميين أنهم يثقون بالمستقبل). والحكيم هو صاحب كلمات (بالاقتناع والتصميم، بالاقتناع والتصميم مرة أخرى) إذ (علينا أن نكون بشجاعة خالد وعدالة عمر وأصحاب مشروع كعيسى ومحمد)... ومصداقية هذه الكلمات إنما جسدها في دراما مسيرته، بما يشبه نصائح كاسترو الداعية (لمحاسبة الذات بعيداً عن طمع السلطة والغرور والتباهي... فأخلاقياتنا ليست أخلاقات البرجوازية... الاشتراكية أو البربرية). وكلمات لينين (لا ينبغي تحويل الهبوط إلى نظرية) و(لا تدافعوا عن الكذب وانخفاض المستوى).
والذين عايشوا الحكيم يعرفون مدى رهافته ودماثته ونظافة قلبه ولسانه ويده. وكما وصفته الراحلة رسمية البرغوثي (لم أعرف إنساناً يحب الناس أكثر منه، فهو دائم السؤال عن ذوي الرفقاء وعائلات الشهداء ولا ينسى تقديم هدية في هذه المناسبة أو تلك). وبرنامج عمله المكتظ يومياً ونفوره الشديد من هدر الوقت كان يحتضن ما يكفي من علاقات إنسانية وهو الذي يخاطب ويصغي برهافة وانتباه للصغير قبل الكبير مبتعدا عن التهكم والزجر وكان يرد على السخرية من عدم كفاءة بعض المحيطين به (ليس لدينا شعبا آخر) ويخاطب المقربين منه! (ابني وحبيبي).
هذا الرجل المتفولذ الذي طوقته شظايا الصواريخ وزخات الرصاص مرات ومرات، عربية وإسرائيلية، واستهدفته أجهزة أمنية عديدة، وجفف موارده الشركاء والحلفاء على حدٍ سواء... كانت دموعه تنهمر مدرارة في مواقف عديدة ويختنق صوته بالبحة في مواقف أكثر (كخاصية مشتركة مع هوتشي مينه).
فدكتور الأطفال أحب الأطفال وكان يدعو لنضال نظيف، وهذا لم يفهمه الإسرائيليون قط حتى انه لم يجرؤ سياسي مرموق واحد منهم على قول ما قاله الحكيم (دولة ديموقراطية يعيش فيها العرب واليهود بمساواة) مستعيناً بنموذج جنوب أفريقيا في نية صادقة لحل التناقض الجوهري. واقل من ذلك لقد رد بيغن على العالم الإسرائيلي موشي عوز (مارسوا مثالياتكم ودعونا نمارس سياستنا) في محاولة لإدارة الأزمة دون حلها حتى لو استغرقت الحروب أجيالا وأجيال (ألمهم هو المصالح الاقتصادية لا السلام) بيرس ومثلما وصفت الدعاية الرأسمالية ماركس (بالدكتور الإرهابي الأحمر) تصف نفس الدعاية الدكتور جورج حبش. وعموماً يتعذر وجود مدرسة سياسية – فكرية ثورية دون أخلاقيات ثورية وإنسانية. وهذه إحدى سمات الحكيم الذي مزج السياسة بالأخلاق، وفي ذات الوقت إحدى إخلالات العمل الفلسطيني اليوم.
كان يتساءل بين الوقت والآخر: هل ثمة فرصة أمامنا... هل يمكن أن ننتصر؟ وهذا السؤال أثاره مع الشهيد صلاح خلف وسواه.
بقلق الفيلسوف يتساءل وبعزيمة المجالدين يعمل. وقد أعجبته مقاربة (إن أحد أهم مزايا اللينينية هي الثبات على المبدأ) فالثبات يعدل ميزان القوى، ولولا الثبات لما أطاح لينين بالقيصرية ولما نجحت مقولته (أعطني دزينة من الثوريين اقلب روسيا رأساً على عقب). وكان يربأ بنفسه عن البراغماتية السياسية التي تتخلى عن المبادئ والحقوق نظير مكاسب صغيرة. فهو قارئ للتاريخ، ويعرف أن لا أحد يحالفه اليقين، ولكن ثمة ما يكفي من أساس ليقول (لا مستقبل للعنصرية، ومساومتها تزيدها شراهة أما المستقبل فهو للإنسانية والعدالة). فما كان يشدّه هو البقاء في ضوء المبادئ لا في دائرة الضوء، المبادئ القادرة على (التوعية والتنظيم والتغيير) بعيداً عن الدجل السياسي والاستعراضية الجوفاء، والكذب كأمراض تنتقل من القاهرين ويتماهى فيها المقهورون لبعض الوقت (فريري) ناهيكم عن (نرجسية وسادية ومازوخية) بعض المثقفين (بلقزيز) وأنصاف السياسيين، الذين (لا يفكرون لأنهم يعملون ضد أنفسهم) العالم المصري الباز.
والحكيم الذي كان يرى (الحياة قصيرة وعلينا انجاز شيء لشعبنا بما يساعده على المضي للأمام) ترجّل عن الزعامة طوعاً، ليستأنف دوره من موقع جديد حتى آخر رمق، لم يكن يسارياً إعتذارياً، إذ بقي منحازاً للفقراء والشغيلة والمعذبين، ومن هنا تتردد في خطاباته ومداخلاته مفردات من طراز (عذابات، جماهير، تضحيات...) وهو يراهن على الجماهير كصانع للتاريخ وحامي للقيادة. وتصحيح الأمور... وهو منحاز للعقل الطليق والتفكير العلمي والنظرية الثورية وبلغة كاسترو (علينا أن نكون ديالكتيكيين ومبدعين). وفي آواخر حياته أعرب الحكيم عن رغبته في الكتابة حول موضوعة التحول من الهوية الديموقراطية الثورية إلى الهوية اليسارية الماركسية... المسوغات، الاشتراطات، القوانين، المعايير، التجليات... المعيقات، وأثار سؤالاً كبيراً: لماذا لم ننتصر؟ ولم تبهر الحكيم العبارات الطنانة المحفوظة من الكتب بل التحليل الملموس للواقع الملموس.
وعندما انهار الاتحاد السوفييتي علق بالقول (إن تأثري أقل من سواي، وذلك أنني أعرف أن الرأسمالية ليست خالدة، ولم نكن في يوم من أنصار النمذجة والتقليد الأعمى. فالذي يريد أن يفهمنا عليه أن يفهم أننا نفكر وهو الذي صاغ قانون (التحالف والنقد) في العلاقة مع البلدان الاشتراكية وقوى اليسار العالمي. (الحياة لن تتوقف وتناقضات الرأسمالية تحفر قبرها رغم ثورتها التقنية).. ببصيرة أفلاطونية يتحدث كما في (المدينة الفاضلة والنزوع لمجتمع أفضل). وكان لسقوط نظام الآبارتهايد في جنوب أفريقيا أثر منهاجي على تفكيره (العنصرية إلى زوال... فقد انهارت بعد ثلاثة قرون) وقد إستنبأ ضمنيا بالمد اليساري في القارة اللاتينية الذي اكتسح نظم التبعية والارتباط في أهم البلدان وأكثرها تصنيعاً (البرازيل)، وغنى (فنزويلا)... مثلما صمدت جزيرة الحرية وخرجت من عنق الزجاجة، ويحتفظ الحكيم بذكريات خاصة عن كوبا وقيادتها وسياستها الأممية الفعالة وكان يتابع صعود قوى اليسار في الهند حيث يحكم في ثلاث ولايات تعداد سكانها 120 مليون نسمة علاوة على انتشارها في أرجاء البلاد وامتداد حركة مقاتلة في ثلث الريف.
(الصدق في السياسة –لينين- هو مطابقة الأقوال بالأفعال) وعشرات الجنازات وبيوت العزاء التي أقيمت في الوطن والشتات بمشاركة شعبية واسعة من كل التلاوين وكلمات الإكبار وما بثته وسائل الإعلام المرئية وسيل المقالات في الصحافة المقروءة... كانت إجماعاً على سجايا الحكيم ومنزلته. إذ لولا صدقه السياسي وصدقه الإنساني لما حظي بمثل هذا التقدير. فقد ترك بصماته على ملايين الفلسطينيين والعرب بل وتحت مظلته تربى عشرات القادة الفلسطينيين والعرب ونسج علاقات تضامنية مع عشرات الحركات الثورية العربية والأممية.
والحكيم، المتواضع، اختصر دوره بمنجزين:
1) ثورة اليمن التي قادت الشعب نحو الاستقلال عن المستعمر البريطاني بقيادة فرع القوميين العرب.
2) تأسيس وقيادة الجبهة الشعبية بما لها من دور في الساحة الفلسطينية خاصة ما قبل أوسلو.
وأجرؤ على إضافة منجزين آخرين: دوره في نشر العقلانية الثورية وقيم المواطنة، وحرية الاختيار، وتحرير ومساواة المرأة... بما لهذه المقولات من أهمية في وعي اجتماعي تطغى عليه الخرافة والجبرية والطائفية والعشائرية... وصولا إلى المقولات الطبقية عن نهب الامبريالية للثروات العربية واستغلال الطبقات الرأسمالية للشغيلة والعمال... ودور الثقافة والمثقفين النقديين، وهو واحد منهم، وعلى صلة نشطة مع ألمعهم ومن تعابيره المفضلة (المهم التركيز على المضمون وعلى المظهر الرئيس للأفكار)، (المهم رؤية الأمور من كل الزوايا ورؤية ترابطها وحركتها واستخلاص الدروس).
وما مثله من خط أخلاقي نزيه، يتمتع بنقاوة عالية وايثارية، ووفاء للتضحيات وسلوك متحضر وروح جمعية وشخصية محاورة وصديقة وقد عرّف الصداقة (بأنها مصارحة بلا حدود، وأن يحمل الواحد هم الآخر دون أن يسأله، ونضال في سبيل أهداف مشتركة).
وصدقه نزع احترام سواه، وقد قال للرئيس الراحل الأسد (سنحافظ على خط سياسي وخط إعلامي مستقل، وأنا عربي، وسوريا بلاد عربية، ومن حقي الإقامة فيها) والتباينات لم تمنع الرئيس الأسد من إرسال طائرة خاصة لنقله من مستشفى في بيروت إلى مستشفى في براغ. وقال للرئيس العراقي صدام (لست في عمر يسمح لي بالمجاملة... فدخولكم الكويت مغامرة ومن الضروري توحيد البيت الداخلي) ولقائد ثورة الفاتح القذافي الذي دعاه للإقامة في ليبيا (لان مهامك اكبر من العمل الفلسطيني)، (إن الامبريالية تسعى لتغطيسكم في رمال تشاد، اسحبوا قواتكم) وللرئيس عبد الناصر (أننا نقود ثورة اليمن وأجهزة بيروقراطية لديكم تشوش سياستكم)... وفي دورات المجلس الوطني كان القائد الوحيد الذي تصفق له فتح، مثلما تصفق لرئيس المنظمة أبو عمار رغم الخلافات)، (لقد عرفت عرفات أكثر أثناء حصار بيروت).
وصفات الحكيم المتحضرة النبيلة البعيدة عن السلطوية والفظاظة كان لها دورها في محاصرة التناقضات الداخلية وتخفيض حدتها، إذ لم يكن إقصائياً أو تآمريا ً أو من الذين يسهل عليهم بذاءة اللسان والضغط على الزناد. وتوجهه قراءته للتناقض الأساسي والتناقض الرئيس والتناقضات الثانوية والعارضة، ويرى جدليتها دون الخلط بينها. ومن هنا جاءت كلماته عام 83 (يجب أن تحسم التناقضات الفلسطينية عن طريق النضال السياسي والجماهيري، وعن طريق الحوار. مجرم من بدأ القتال ومجرم من فكر فيه، وخطط له، ومجرم من يغذيه) وقد دفع ثمن ذلك... ونعرف عن أخلاقية الحكيم أكثر عندما نعلم أنه رحل عن الدنيا دون أن يترك لعائلته أي رصيد مالي، أسوة بعبد الناصر الذي أورث عائلته 67 دولاراً!!!
وانسجاماً مع قناعته بالتجديد راح يهيء عام 89 لإعطاء فرصة للدماء الشبابية، والتفرغ للعمل الفكري وتأريخ تجارب ثورية عربية، و (إن لم أؤرخ تجربة القومين العرب والجبهة أموت وفي قلبي حسرة) وهو القائد الفلسطيني الوحيد الذي ترجل عن فرس القيادة طواعية دون أن يغادر ساحة العمل الدؤوب بما أثبت كلمة ماركس عن(الإنسان الشامل) متعدد الأبعاد والمهارات.
أما إن كان المحترف أو المتفرغ في مؤسسة سواء كان سلطوية أو حزبية لا يتقن من فرص الدنيا سوى وظيفته حينها سيدافع عنها بأسنانه وأظافره حماية لوظيفته وبذلك يتحول تفرغه من دور عمومي لخدمة الوطن وتضحيات في سبيل الشعب إلى وظيفة تعتاش منها عائلته بصرف النظر عن إسقاطات ذلك على الوطن والشعب.
وكما عرفات وكاسترو وعبد الناصر كان يمتد عمل الحكيم بين 14 – 16 ساعة يوميا، ولغة إجازة لم يعرفها إلا لماما، حتى أنه عاد لمزاولة مهامه بعد ثلاثة أيام من زواجه من رفيقة دربه الرفيقة هيلدا التي شاركته الأيام حلوها ومرها، والهموم والأوجاع والأحلام... بما تتمتع به من شخصية قوية مصابرة، بل وشكلت سياجاً حامياً له في محطات خطرة عديدة، وكان لها دورها الرئيس في الحيلولة دون اختطافه من رحلته العلاجية في فرنسا التي صدر عنها كتاب بعنوان (رجل يهز فرنسا) وقد وصلني نسخة منه مع إهداء لفتتني العبارة التالية فيه (في زمن انقلبت فيه المقاييس والمفاهيم... تحولت رحلتنا العلاجية لقضية سياسية أثارت عاصفة هوجاء، أطاحت بعدد من كبار المسؤولين، مع خالص محبتنا. جورج وهيلدا حبش). وحينما اتصلت هاتفيا بأم الميس معزيا برحيل الحكيم مرة ورحيل أمها التي دأبت على مشاطرتها حياتها دون توقف، تلجلج صوتي مرتين، أما أم الميس فكان صوتها صريحاً قوياً متفجعاً (راح من بين أيدينا ولم استطع إنقاذه) يشغلها ترجمة كتاب (الثوريون لا يموتون) وجمع إرث الحكيم (إنصافا له).
تمتع الحكيم بقوة معنوية هائلة، لا تعرف الفتور، قادرة على استنهاض همة أعداد كبيرة من الناس، ليس بالتفتيش عن عناصر تحليلية تبعث على التفاؤل، وليس بتقديم قراءة لحركة التاريخ وحسب، بل ما يملكه من غزارة ثقافية وسلوك عملي يشكل قوة مثال أيضاً وقدرة على اجتراح إجابات وبناء منصة انطلاق بعد كل واقعة. والحكيم سياسي ومثقف ومن نصائحه (اقرأوا هيجل قبل ماركس، سان سيمون وريكاردو وآدم سميث، ابن خلدون وابن رشد، ولينين وجيفارا، وسمير أمين. أقرأوا بنفنستي وتجارب القادة الصهاينة... هل تتابعون الصحف العبرية وتقرير مراقبة امن الدولة... وما أخر آراء شاحاك وعوز، وصدر كتاب لابن شاريت هل ثمة ترجمة عربية أو انجليزية... وماذا يقول المؤرخون الجدد وما بعد الصهيونية؟ (اعرف عدوك) طرزت هذه المقولة غلاف مجلة الهدف قبل وبما يتقاطع مع كلمات ادوارد سعيد (في سعينا نحو العدالة لا يكفي أن نعرف أنفسنا. على معرفتنا أن تكون كالرحالة في اكتشاف الآخرين) أكثروا من قراءة الأدب وأشعار درويش والقاسم وكنفاني والأقلام الشبابية. وقد أوصى بقراءة كتاب الدكتور دراج (بؤس الثقافة) لما فيه من جوانب مفيدة. فقد تخلفت المؤسسة السياسية والكثير من الطلاء إنما يهدف لإخفاء الخيبات المتلاحقة.
وحينما اشتركنا في مركز الغد العربي بإصداراته وندواته إنما أثار حمية ووّلد أسئلة جديدة وأحلاماً جديدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق