الأحد، 29 يناير 2012

شهادة عبد الباري عطوان " بعنوان : الحكيم عندما يترجل "

  الحكيم عندما يترجل
                                                                                                                        عبد الباري عطوان
برحيل الدكتور جورج حبش، يكون الستار قد اسدل، وبشكل نهائي، على كوكبة من فرسان هذه الأمة، الذين بعثوا الامل فيها، وتمسكوا بثوابتها الوطنية، وارادوا لها مكانة متميزة بين الأمم.
حتي اللحظات الاخيرة من حياته، ظل الدكتور حبش متفائلا بقدرة هذه الامة على النهوض من كبوتها، مؤمنا بحتمية وحدتها، منتصرا لقضاياها، منحازا الي الضعفاء في مواجهة الاقوياء.
اسس أكاديمية عمادها التواضع، واحترام الذات، ونظافة اليد واللسان، واتباع ارفع انواع التهذيب في المعارضة السياسية، والابتعاد عن المبالغة، والتمسك بالصدق والحرص على الثبات والمصداقية في القول والموقف معا.
عاش حياة متواضعة في احد احياء العاصمة الاردنية عمان، يتلقي معاشا شهريا مقداره 300 دولار امريكي من الجبهة الشعبية، ولم يسجل مطلقا في كل ادبيات الجبهة انه طلب شيئا خاصا لنفسه او لأسرته، وانا اعلم شخصيا انه لم يكن يملك المال الكافي لإعداد مذكراته والاستعانة بباحثين لمساعدته على انجازها ونشرها بالشكل المطلوب، وتصنيف الوثائق المتعلقة بها.
 
سيدخل الدكتور جورج حبش التاريخ العربي ليس لانه مؤسس حركة القوميين العرب، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وانما ايضا كزعيم ترجل من سدة القيادة لافساح المجال امام اجيال جديدة لتأخذ دورها وتتحمل مسؤوليتها. فالرجل لم يعتزل القيادة في العام الفين، وانما قبلها بكثير، حيث كان يطالب صادقا، في جميع مؤتمرات الجبهة في السنوات العشر التي سبقت اعتزاله، بإعفائه من القيادة، ولكن جميع طلباته قوبلت بالرفض. لقد اسس سابقة، ونموذجا في العملين الثوري والحزبي، سيظلان ماركة مميزة له، تؤكد فرادته بين اقرانه.

لم يهادن الأنظمة العربية والديكتاتورية القمعية منها علي وجه الخصوص، ونأي بحركته عن المناصب والانقلابات، وفضل ان تظل دائما حركة قومية مقاتلة، ترتكز علي رصيد هائل من القيم والمباديء الاخلاقية، بعيدا عن الماديات، ومغريات السلطة.
ربما يجادل البعض بانه كان رومانسيا حالما، وان حركته كانت نخبوية مثالية، لم تقرأ المعادلات الاقليمية بشكل صحيح، ولهذا لم تضرب جذورها في عمق الطبقات الشعبية، ولم تصل الي قاع المجتمعات العربية، علي عكس الحركة الناصرية مثلا، وربما ينطوي هذا النقد علي بعض الصحة، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو عما اذا كانت الانظمة الاقليمية قد سمحت لها بان تنمو وتتطور وهي التي نصبت اسوارا شائكة لإبعادها عن القاعدة، وزجت بالكثير من ابنائها، اي ابناء الحركة، في السجون والمعتقلات، وأسست، ومولت، حركات مقاومة لتخريب العمل الفدائي الفلسطيني، وتشتيته، بل وحرفه عن اهدافه الحقيقية.
ورغم ان الدكتور حبش لم يدخل في المؤامرات والانقلابات مثلما فعلت احزاب قومية اخري، الا انه لم يسلم من مؤامرات وانقلابات هذه الانظمة التي زرعت بعض رجالاتها في حركته وجبهته، ونجحت في شق صفوفها، واستنساخها في اشكال متعددة بعيدة عن الاصل ومنطلقاته ومبادئه، ومن المفارقة ان جميع هذه المؤامرات جاءت من قبل انظمة ترفع راية القومية العربية وتتبناها كشعار جماهيري.

اختلف الدكتور حبش كثيرا مع رفيقه وخصمه ياسر عرفات، وكان المجلس الوطني الفلسطيني ساحة نزال ساخنة بين الرجلين، الاول يمثل توجها تصالحيا مع الانظمة، وقراءة واقعية للمعادلات الدولية حسبما كان معروفا عنه، والثاني كان صاحب مدرسة نضالية، لا تساوم علي الحق، ولا تبدي اي مرونة مع الاعداء، ولا تفرط بالثوابت، او ببعض منها ولو من قبيل التكتيك.
هذا الخلاف بين الرجلين هو الذي حفظ التوازن في الساحة الفلسطينية، وأطال في عمر منظمة التحرير وعزز صلابتها، وأبقى على الحيوية والديناميكية في العمل الفلسطيني، وقدم مثلا في التعايش تحت سقف الشرعية النضالية في محيط عربي مضطرب، وفي مواجهة عدو ربما يكون هو الاكثر شراسة في التاريخ الاستعماري الاستيطاني.
لم يخوّن جورج حبش مطلقا خصمه ياسر عرفات، ولخص بعبارته الشهيرة التي اطلقها في المجلس الوطني الفلسطيني بالجزائر، طبيعة العلاقة معه عندما قال مخاطبا إياه ويلي منك وويلي عليك . وكان بليغا في خصومته مثلما كان عظيما في محبته. فللخصومة اخلاق في قاموسه، وكان فعلا مضرب المثل في ذلك.
ثلاث محطات رئيسية في مسيرة الدكتور حبش لا يمكن تجاهلها، اولاها معارضته الشرسة لاتفاقات كامب ديفيد التى وقعها الرئيس الراحل محمد انور السادات، وثانيتها معارضته الاشد لاتفاقات اوسلو التى وقعها الرئيس الراحل ياسر عرفات في ايلول (سبتمبر) عام 1993، وثالثتها معارضته الحرب الامريكية على العراق في فصليها الاول والثاني.

بوصلته كانت دائما مصلحة الأمة، والوقوف في خندق اعدائها، والادارات الامريكية المتحالفة مع العدو الاسرائيلي على وجه الخصوص، ولم تخطيء بوصلته ابدا، فقد مزقت اتفاقات كامب ديفيد الصف العربي، وسجلت اتفاقات اوسلو سابقة اعتراف فلسطيني مجاني باسرائيل قاد اى كوارث جمة وما زال، اما الحروب الامريكية في المنطقة فقد دمرت العراق، ومزقت وحدته الوطنية، وقتلت الملايين من ابنائه حصارا واحتلالا، وكادت ان تطمس وجهه العربي.
رحم الله الدكتور جورج حبش حكيم الامة العربية، الذي جاء من رحم المعاناة الفلسطينية، ليجعل منها ركيزة نضالية للوصول الي الهدف الأسمى الا وهو الوحدة العربية الشاملة على اسس الكرامة القومية المتسامحة.
انحاز الحكيم دائما الي الفقراء الذين فتح عيادة مع زميل دربه وديع حداد في مخيمات عمان لعلاجهم، وسيحل اليوم ضيفا الي جانبهم في مقبرة الشهداء رفاق مسيرته النضالية.

الأربعاء، 25 يناير 2012

في الذكرى الرابعة لرحيل القائد جورج حبش : بقلم هيلدا حبش .

في الذكرى الرابعة لرحيل القائد جورج حبش /هيلدا حبش
2012-01-25

تحل الذكرى الأليمة الرابعة لرحيل الحكيم اليوم في خضم أحداث صاخبة تعصف في الوطن العربي فتهب رياح التغيير من أجل وطن تسوده الحرية والعدالة والمساواة وتصان فيه كرامة المواطن العربي المهدورة، وتطبق فيه الديمقراطية والتعددية السياسية ليبزغ فجر جديد يسدل فيه الستار على مرحلة قاتمة من تاريخ شعبنا ولتشرق شمس الحرية وتعود السيادة فيه للوطن وللمواطن التي طالما إفتقدها. كم كنت أتمنى أن يكون الحكيم اليوم على قيد الحياة ليعيش نشوة الإنتصار لإرادة الشعوب التي طالما اَمن بها وعمل من أجلها. فقد كان يؤمن دوماً بأن معركة التحرير تبدأ بتحرير الشعب من القهر والظلم والإستبداد والذل والفقر. 

تأتي هذه الذكرى على وقع الاحداث الجسيمة التي يعيشها شعبنا العربي وعلى دوي المعارك الضارية التي يواجهها في صدور عارية وكله ايمان بعدالة مطالبه المحقة في العيش الكريم ومستقبل أفضل.
أمواج من البشر تملأ الساحات والميادين غير آبهة بآلة القتل والقمع التي تفتك بالنساء والاطفال والشيوخ والشباب وتقطّع اوصالهم. ثمن باهظ يدفعه الشعب من دمه بينما باقي شعوب الارض في البلدان المتقدمة تنعم بالحرية وتعتبر مثل هذه المطالب من البديهيات وحق مكتسب من حقوقها.
ان شرارة الثورة التي هبت من تونس وامتد لهيبها الى مصر وليبيا واليمن حتى وصلت سورية، جاءت لتعبر عن مدى الظلم والقهر الذي يختزنه شعبنا في ظل أنظمة مستبدة تستأثر بالمال والسلطة وتصادر حقوق المواطن وتنهب ثروات البلاد. إن البوعزيزي احرق نفسه بعدما أدرك أنه لا مكان للفقراء امثاله في هذا العالم المادي .إن الأزمات الاقتصادية التي يعيشها العالم في السنوات الاخيرة ماهي الا نتيجه طبيعية لجشع أصحاب المليارات وفسادهم فإنعكست سلباً على ذوي الدخل المحدود كونهم الحلقة الضعيفة أمام طاغوت الرأسمالية.
تتزامن ذكرى رحيل الحكيم مع ذكرى اندلاع ثورة مصر العظيمة، ثورة الشباب الذي قدم الغالي والنفيس من أجل القضاء على الدكتاتورية والفساد لتبدأ مسيرة البناء، بناء الدولة الحديثة دولة القانون والمؤسسات، دولة تعمل على حماية الشعب من الجهل والفقر والبطالة وتوفير العلاج والتعليم وخلق فرص العمل لجميع المواطنين. دولة تعمل على ارساء قواعد الديمقراطية والتعددية وحرية الرأي والتعبير. بهذه المناسبة المجيدة أتمنى لمصر ولشعب مصر ولكل الشباب والشابات الذين كان لهم الدور الاكبر في إحداث التغيير والذين دفعوا الثمن غالياً تحقيق اهدافهم الوطنية كاملة. هنيئاً لهم هذا النجاح وأطلب من الله أن تبقى شعلة الثورة متقدة، وان يعملوا جميعاً يداً بيد بعيداً عن الانقسامات المدمرة لحماية الثورة وحماية هذا الانجاز الكبير. المجد والخلود لشهداء مصر الأبرار.
اهنيء الشعب التونسي في عيد الثورة المجيدة ثورة الياسمين التي اندلعت في 17 ديسمبر وكانت أول من أطلق الشرارة التي انتشرت كالنار في الهشيم في معظم أرجاء البلدان العربية. ستبقى تضحيات الشعب التونسي صفحة مجد في تاريخ تونس الحديث تحية اجلال واكبار الى شهداء تونس وجرحاها والى كل من ساهم وشارك في عملية التغيير.
اما الشعب اليمني العظيم الذي مازال يقارع الدكتاتورية، فقد اثبت للعالم بأن النضال السلمي الدؤوب وبالارادة والتصميم يستطيع أن يواجه جيش النظام المدجج بالسلاح وأن الشعب الذي استطاع تحرير اليمن الجنوبي من قبضة الاستعمار البريطاني قبل عقود يستطيع أن ينتزع حريته من الطغمة الحاكمة نحن نعتز بالدور الكبير الذي قام به الشعب اليمني شيباً وشباباً واطفالاً. إن المرأة اليمنية دخلت التاريخ من أوسع أبوابه. تحية الى الأخت المناضلة توكل كرمان وهنيئاً لها وللمرأة اليمنية هذه الجائزة جائزة نوبل للسلام فهذا التكريم هو تكريم لكل امرأة عربية تركت بصماتها في ساحات الوغى. أحيي الشعب اليمني الذي ضرب مثالاً يحتذى به في الصبر والعزيمة والاصرار والمثابرة.
كما وأحيي الشعب الليبي الذي انتصر على الدكتاتورية والفساد وأترحم على شهداء الثورة الذين قضوا وهم يدافعون عن كرامة شعبهم وبلدهم وهم الذين بدمائهم الطاهرة رووا التراب الليبي وطهروا الارض من براثن الطغاة. اتمنى الشفاء لجميع الجرحى وان جراحهم ستبقى أوسمة على جباههم وجباه كل الاحرار في ليبيا. واتمنى على الثوار العمل على تعزيز الوحدة الوطنية والوفاق الوطني لتبدأ معركة البناء بناء ليبيا الحديثة الحرة بهمة شبابها وشاباتها.
إن الثروة النفطية هي ملك الشعب الليبي، إن دول الناتو لم تشارك في الحرب لسواد عيون الشعب الليبي يكفي أن نعرف أن حصة فرنسا وحدها من النفط 35' ولا أدري ماذا يبقى من حصة ليبيا بعد توزيع الحصص فيما بينهم هذا عدا عن النيران الصديقة التي اكتوى بها المدنيين العزل. المجد والخلود الى شهداء ليبيا الابرار.
أما سورية الحبيبة فمن الصعب أن تعبر الكلمات عن مدى الحزن العميق والشعور بالمرارة ونحن نشاهد الدم السوري يراق بغزارة في شوارع المدن السورية ثمناً للحرية والعدالة والمساواة. ومن أجل عملية اصلاح شاملة ومطالب محقة ومشروعة للتخفيف من أعباء المواطنين ومعاناتهم. سورية التي عشنا فيها الامن والامان والاستقرار لها مكانة خاصة في قلوبنا وتربطنا بشعبها أفضل العلاقات المتينة الودية والاخوية. لنا في هذا البلد الحبيب ذكريات خاصة وحميمة وإن ارتباطي بالحكيم والزواج منه تم في دمشق في كنيسة الصليب في القصاع ومازلت أذكر شباب الحركة، حركة القوميون العرب، وهم يرقصون الدبكة الفلسطينية خارج الكنيسة وسط عدد كبير من الرفاق والاهل والاصدقاء فرحاً بزواجنا كما أن إبنتنا ميساء ولدت في دمشق.
كان الحكيم يعشق الاقامة في سورية لقد عشنا معاً أحلى ايامنا التي امتدت لسنوات طويلة وكانت دمشق خياره الاول بعد الخروج من بيروت. أتخيله لوكان على قيد الحياة لقدم دمه انقاذاً لسورية وللشعب السوري ودعا الى وقف الاقتتال الداخلي بين الشعب الواحد وطلب من الجميع توجيه فوهات البنادق نحو العدو الاسرائيلي المشترك. كان يؤمن بالحوار الديمقراطي لحل الخلاف بين الاخوة ويدعو الى الوحدة الوطنية والوفاق الوطني بعيداً عن النزاع الطائفي كما كانت سورية دائما نموذجاً للتعايش السلمي. أدعو الى وقف القتال لأن ما يجري على الارض اليوم يفوق قدرتنا على الإحتمال. في خضم هذه الاحداث الساخنة تجري المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية المباشرة التي يطلقون عليها مفاوضات استطلاعية وكأن عشرين عاما' من المفاوضات الفاشلة لا تكفي للاستطلاع. بينما اسرائيل تستطلع بطريقتها الخاصة على الارض بخلق واقع جديد عن طريق مصادرة المزيد من الاراضي وتكثيف الاستيطان وبناء آلاف الوحدات الاستيطانية وتهويد ما تبقى من القدس وهدم المباني وطرد السكان ومصادرة هوياتهم وزج المزيد من المناضلين في السجون وشن المزيد من الغارات فوق غزة لتقتل وتدمر كما يحلو لها دون حسيب ولا رقيب. 
ان شعبنا قد سئم المفاوضات والمفاوضين ويرفض التفريط بالحقوق والثوابت الوطنية التي دفع آلاف الشهداء والجرحى وآلاف المعتقلين ثمناً للمبادئ التي قامت الثورة من أجلها. أين أصبح حق العودة وحقنا في المقاومة وحق تقرير المصير وازالة المستوطنات والانسحاب من الاراضي المحتلة ؟ حقوق مشروعة اقرتها جميع الاعراف والشرائع الدولية. أدعو القيادة الفلسطينية إلى إحترام ارادة الشعب الفلسطيني واجراء استفتاء شعبي ليقول الشعب كلمته بكل ما يجري على الساحة الفلسطينية. إن الربيع العربي ورياح التغير آتية لا محالة.
رحم الله الحكيم ولتبقى مبادئه شعلة تنير طريق الحق والحقيقة. 
' ارملة الزعيم الفلسطيني الراحل د. جورج حبش

الثلاثاء، 24 يناير 2012

شهادة نصير عاروري : لمحات سريعة عن فكر جورج حبش



 لمحات سريعة عن فكر جورج حبش                    
                                                                                                 نصير عاروري

المرحوم الدكتور جورج حبش قائد فريد من نوعه، فهو  مؤسّس، ومُنظّر، ومفكر، وصاحب أيديولوجيا كانت لها منزلة مرموقة في فكره ونشاطه السياسي. وقد ضمنت لهذا الفكر النير والنشاط الخلاق مسارا ثابتا متناسقا، وجنّبتهما الإرتجال والتكهن بدلا من العقلانية والمنطق.
وعلى غير ما نعرفه عن الكثير من القادة الفلسطينيين والعرب، فقد تمسك الحكيم بأيديولوجيته لأنها كانت توجه مساره السياسي، وتقوده إلى أهدافه وأهداف شعبه، وتساعده على تحمّل مسؤولياته.
 

الحكيم أول قائد فلسطيني تنحّى عن القيادة طوعاً، على نقيض الكثيرين من زملائه الذين نادرا ما يتركون القيادة إلا بسبب الموت أو العنف السياسي أو الأعمال التآمرية. ومن مميزاته أيضا أنه كان أول من رأى العلاقة المتينة بين فكرة القوميين العرب وقضية فلسطين في عام1948 حيث تبين له بوضوح أن الصراع على تراب فلسطين لم يكن مجرد قتال عربي- صهيوني وحسب بل يتعدى ذلك ليشمل المطامع الإستعمارية في منطقة الشرق الأوسط. ومن هنا، وَلَّدَت نكبة فلسطين فكرة »القوميين العرب« التي ركزت على أهمية الوحدة العربية، ورفض التشتت والضعف العربي. ومن هنا أيضاً تمكن القوميون العرب من رؤية التحالف بين الاستعمار الغربي والرجعية العربية وما يترتب عليه من تحالف بين الصهيونية والرجعية العربية بشكل فعلي.
 

وكما رأى الدكتور حبش البعدَ العربي للمسألة الفلسطينية، والديناميكية التي كانت تربط الفلسطينيين بالشعوب والأنظمة العربية، وتقيم بالتالي علاقة بين الصهيونية والرجعية العربية، فإنه كذلك رأى بعدا عربيا آخر للمسألة الفلسطينية عن طريق الرجعية العربية. وجاءت هزيمة 1967 تعالج التحديات التي واجهت الدكتور حبش والقوميين العرب منذ 1948، إذ بدأوا بطرح الأسئلة عن القيمة الفعلية للأحزاب السياسية العربية والجيوش العربية ومفهوم الدولة العربية في الوقت الذي حُطـِّمَت به تلك الكيانات في ستة أيام فقط. وكان من تلك الأسئلة الملحة آنذاك: هل آن الوقت لبروز نضال فلسطيني ضمن كفاح شعبي يتحدى تحالف الصهيونية والإستعمار والرجعية العربية؟ ألم تقتض الضرورة أن يتحوّل النضال إلى كفاح واسع يقوده الفلسطينيون في حرب تحرير طويلة الأمد تؤدي إلى القرار الفلسطيني المستقل؟
لكن حرب التحرير واستقلالية القرار الفلسطيني طُمِسا أثناء البحث عن القرار المستقل بحد ذاته، فبيان مؤتمر قمة الرباط عام 1974 وما تلاه من بيانات عربية صدرت بعد ذلك في مؤتمرات القمة المتلاحقة كلها كانت تعبّر عن استقلالية القرار الفلسطيني من خلال التأكيد على اعتماد منظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعيّاً وحيداً للشعب الفلسطيني. وقد كان ذلك يشكل القاسم المشترك الأعظم لتلك البيانات، لكن ما حدث فعلا هو صفقة مقايضة غير مدوّنة بين منظمة التحرير  والأنظمة العربية تمتنع المنظمة بموجبها عن تصعيد العمل الثوري للفئات الفلسطينية المسلحة، وتستعيض عن ذلك بالنشاط الديبلوماسي و»النضال« السياسي بالاشتراك مع الدول العربية.
 وبموجب هذه الصفقة بدأت الدول العربية بدعم النضال الفلسطيني اقتصاديا وسياسيا وديبلوماسيا من أجل الحصول على دويلة فلسطينية في الضفة الغربية تقوم -إذا قامت- على حوالي 20٪ من أرض فلسطين ما قبل النكبة. ومع هذه الصفقة انتهت فترة الكفاح الشعبي وحرب التحرير. وعلى عكس ما حدث في جنوب أفريقيا حيث أصرّت الثورة هناك على مواصلة الكفاح المسلح، وعدم الاعتراف  بنظام الأبارتايد، تخلت الحركة الوطنية الفلسطينية عن الكفاح المسلح، بل تعاونت مع أعدائه من الرجعية العربية وحليفتها الصهيونية.
 

بهذا شكلت أواسط السبعينات منعطفا جديدا لحركة التحرير الفلسطينية، إذ كان من المستحيل أن يخوض الفلسطينيون نضالاً سياسيا محدودا يهدف إلى تحرير بقعة ضئيلة من الضفة الغربية فيما فُرض عليهم أن لا يخوضوا معارك عسكرية شعبية تحريرية ذات طموح أوسع وأهداف أوضح. وهذا ما أدى بالحركة الوطنية الفلسطينية إلى انكماش عبّرت عنه منظمة التحرير في بياناتها التي شملت على سبيل المثال  »ميثاق الاستقلال« لعام 1988 الذي كَلّفَ الفلسطينيين اعترافَهم بإسرائيل، و»التخلي عن الإرهاب«،والاكتفاء بقطعة أرض صغيرة في الضفّة الغربية يطلقون عليها إسم فلسطين.
بالإضافة إلى »ميثاق الاستقلال« كانت هناك عدة بيانات صدرت عن مؤتمرات قمة ومشروعات مثل  مشروع فهد، ومشروع ريغان، ومشروع شولتز وغيرها مما كان يُعرِّف السيادة تعريفا يبعدها عن الفلسطينيين. ثم وصلت تنازلات الفلسطينيين إلى ما وصلت إليه في اتفاقيات أوسلو التي حرمت الفلسطينيين من ممارسة السيادة على أية بقعة من الأرض واقعة بين نهر الأردن والبحر المتوسط، والاكتفاء بممارسة شكل من الحكم الذاتي في بانتوستانات الضفة الغربية.تنازلات الثمانينات والتسعينات رسّخت الخلاف بين الحركة التي كان يقودها جورج حبش وبين جماعة فتح وحلفائها. وهو خلاف أيديولوجي نظري ينبع من المبدأ، وخلاف على صعيد السلوك السياسي وشكل المفاوضات، وخلاف على أسلوب القيادة والأسلوب الاجتماعي والأخلاقي وطرق التعامل مع الناس.
 

وفي سياق هذا الفهم الأيديولوجي لطبيعة الصراع اهتمّ الحكيم بالبعد العالمي للمسألة الفلسطينية، فتنظيمه كان أول تنظيم ففلسطيني  يقيم علاقات وطيدة مع قوى عالمية آزرت القضية الفلسطينية، ليس بشكليات التضامن، بل بالمشاركة في العمل النضالي. وعلى الرغم من ان القوى الاستعمارية اتهمت هذه القوى العالمية بالإرهاب فإن الدكتور حبش وزملاءه أفادوا من خبرات هذه القوى ومن استعدادها للتضحية في سبيل أهداف وأماني مشتركة.
وعلى نقيض  قيادات فلسطينية وعربية أخرى فإن قيادة الحكيم كانت منفتحة بذكاء وحكمة تجاه الخارج تتبادل معه مايفيد الأهداف والأماني المشتركة.
كان الحكيم واثقا من ضرورة هذا التعاون والتبادل ذلك لأن البعد العالمي للحركة التي أسسها يتطلب مبادلة الأفكار وتداول الأمور التي تمس المصالح المشتركة.
ولم يتخلف الحكيم عن عقد الجلسات التشاورية وعن النقاش الحي لشؤون الساعة وتطورات الحقبة. وكثيرا ما كانيتحلى بالصمت، مفضلاً أن يستمع ويفكر ويبلور أفكاره بدلاً من نشر وتوزيع تلك الأفكار كأنها صادرة من منبر الوعظ.
هذا السلوك وهذا التركيز على ضرورة الإصغاء ميّز الحكيم عن كثير من زملائه في التنظيمات الأخرى من الذين لا يكفون عن إلقاء المحاضرات، الأمر الذي يعبر عن علاقات التبعية ويذكر بالفرق بين الرئيس والمرءوس.
 

وهنا أود أن أعطي مثلاً يعكس خبرة شخصية بهذا الموضوع. في هذا المثل تتجلى   سمات الدكتور حبش وأسلوبه في ترتيب جلسات النقاش والتشاور:في صيف عام 1990 تلقيت وزميلي المرحوم الدكتور سميح فرسون أستاذ علم الإجتماع في الجامعة الأميركية بواشنطن دعوة لزيارة الأخ الدكتور جورج حبش في تونس للتداول في أمور الساعة. كان ذلك، بعد الاحتلال العراقي للكويت (آب 1990) وحشد القوات الأميركية في السعودية العربية. فهاهي الجيوش الأميركية رابضة على الأرض العربية تنتظر أوامر الرئيس جورج بوش (الأب) التي لم تكن معروفة بعد. وكان العالم العربي ومعه العالم بأسره يحبس أنفاسه في انتظار القرار، فإما أن تعبر جيوش بوش الكويت لطرد الجيش العراقي، أو ربما تطارد أفراد هذا الجيش وهم يتقهقرون إلى قواعدهم في العراق.
بعد أن هبطت الطائرة التي كانت تقلنا في مطار تونس، وبعد الإجراءات الأمنية وجوازات السفر، ركبنا السيارة التي أخذتنا إلى بيت متواضع في مدينة تونس حيث كان الحكيم وزوجته هيلدا بانتظارنا. وكان هناك شاب يقوم بالمهام اللازمة لاجتماعنا المزمع عقده.  وقد قضينا ما يقرب من ساعة في ترتيب برنامج الأيام الثلاثة المقبلة حيث قسمنا موضوعات البحث إلى ستة، نعالج اثنين منها كل يوم، واحداً في الصباح وآخر بعد الظهر. هكذا ترأس الدكتور سميح ثلاث جلسات بينما ترأست الجلسات الثلاث الباقية. أما الحكيم فكان يستمع ثم ، بعد ذلك، يشارك في النقاش. لكنه لم يشارك في رئاسة أية جلسة.
وفي اليوم الأخير، قبيل انتهاء الندوة قلت: » يا أخونا الحكيم إننا نريد أن نسمع تحليلك أنت للوضع الراهن وإمكانيات المستقبل«. ولم تمض بضع دقائق حتى بدأنا نسمع تحليلاً أكاديميا متقناً، كأنه مكتوب. لكنني واثق من أن الحكيم لم يكتبه، بل إن كل ما قاله كان صادرا من عقل مفكر وقريحة واسعة وإلمام شامل بالموضوع. والدكتور حبش، في النهاية ليس بحاجة إلى من يمدح تمكنه من الأمور المتعلقة بالصراع العربية الإسرائيلي والتطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط، لكن ندوته كانت  فعلا في غاية الإتقان والبساطة والتنظيم، وكانت ثرية في الشكل والمضمون. لقد كان من المؤكد أنه كان يريد أن يعرف منا أكثر مما كنا نريد أن نعرف منه.
 

وأكون مجحفا إذا ما قلت إن أحدا من زملاء الدكتور حبش في تونس لم يوجه إلينا سؤالاً عن إمكانية توسع العنف في منطقة الجزيرة العربية،ولكننا تلقينا الكثير من الآراء، والكثير من »المحاضرات« التي كانت إجمالاً تتسم بالتفاؤل وانتظار النصر القادم.لم يكن ذلك أسلوب الدكتور حبش أو أسلوب تنظيمه في يوم من الأيام، فموقع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الحركة الوطنية الفلسطينية كان لخدمة كل الشعب الفلسطيني دون استثناء، وليس لخدمة أطر تنظيمية أو فئوية أو حزبية. ولم يكن لخدمة أطر ضيقة بل للدفاع عن الصالح العام ووحدة الصف والوحدة العربية.


مرايا جورج حبش:كتاب «جورج حبش.. حكاية وطن»

مرايا جورج حبش
ثقافة و فن | | 2009-11-23


هادي إبراهيم - قاسيون / كتاب «جورج حبش.. حكاية وطن» الذي صدر عن «مؤسسة الهدف للنشر والتوثيق» عبارة عن مجموعة من المقالات والشهادات التي تتحدث عن مسيرة حكيم الثورة الفلسطينية مع اقتراب حلول الذكرى السنوية الثانية على رحيله. «مؤسسة الهدف» تقول إن هذا العمل هو: «شهادات وفاء منا له، وحقه علينا أن نبادر بجمع شهادات عن الحكيم تتحدث عن مسيرة النضال الطويلة التي أفنى عمره فيها». 

المقدمة تتوزع بين عائلة حبش الحزبية ممثلة بالأسير أحمد سعدات، أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الذي يقول: «أن تكتب عن جورج حبش فأنت في الواقع تكتب عن فلسطين الوطن، وعن قضية العرب المركزية، ومسارها، وسيرورة النضال الوطني الفلسطيني، ومشوار الكفاح، فقد تماهت صورة الرجل مع صورة فلسطين»، وبين عائلته الصغيرة ممثلة بزوجته هيلدا وابنته لمى وحفيده، حيث يتحدثون بحميمية عنه إنساناً وأباً وزوجاً.

الكتاب مقسّم إلى خمسة أبواب، حيث يتحدث في الباب الأول مجموعة من الشخصيات الوطنية العربية والمرجعيات وهم من أصدقاء الراحل الدكتور جورج حبش من أبرزهم: الرئيس أحمد بن بلا، د. أنيس الصابغ، د. محسن بلال، د. سمير أمين، إضافة إلى شهادة للشاعر الكبير الراحل محمود درويش إذ يقول: «للحكيم جورج حبش في المخيلة الفلسطينية مكانة الأيقونة. حتى الذين اختلفوا معه على معالجة المعقد بالبسيط والبداهة، أحبوه واحترموه، وأصيبوا في صحبته بعدوى الأمل من فرط ما هو صادق وشفاف».

أما الباب الثاني فقد خُصص للمفكرين والباحثين العرب، حيث قدموا قراءات فكرية لمسيرة الحكيم النضالية. يقول أحمد برقاوي: «لم يكن يلتفت إلى الماضي إلا من أجل استخلاص العبر فلم يكن يشكو، ولم يكن يحدثنا عن تجاربه الماضية بل كان يسألنا ما العمل.. ما العمل؟!». الباب الثالث يرسم بورتريهاً لجورج حبش كما يراه الكتاب والفنانون، فنطالع صورة المناضل من وجهات نظر أخرى، فها هو الروائي اللبناني الياس خوري يقول: «هذا هو جورج حبش الذي أحبٌه: ساحر وطفل، منتصر ومهزوم، قائد يتعثر بأقدار شعبه، وحالم أراد أن يصنع من النكبة الكارثة مدخلاً إلى التغيير ومساحة لإعادة بناء الذات»، إضافة إليه يكتب الروائي رشاد أبو شاور، والشاعران سميح القاسم وأحمد دحبور وآخرون...

البابان الرابع والخامس يتضمنان عدداً كبيراً من شهادات رفاق الدرب، وقادة القوى الوطنية والإسلامية الفلسطينية، وقيادات حركة التحرر العربي، والقوى التقدمية العربية، إضافة إلى شذرات مختارة من الصحافة العربية العالمية.

يختتم الكتاب بملحقين الأول سيرة ذاتية لحبش، والثاني عبارة عن ألبوم صور يجمع الحكيم مع عدد كبير من المناضلين والزعماء والأدباء وقادة الحركات الثورية العربية والأممية.
هذا الكتاب هو الثالث الذي يتحدث عن مسيرة هذا الرجل د جورج حبش فقد صدر منذ فترة كتاب «الثوريين لا يموتون أبدا» وهو مجموعة من الحوارات التي أجراها معه الصحفي الفرنسي جورج ما لبرونو، وكتاب آخر من إعداد الباحث والكاتب السوري مازن يوسف الصباغ يضم شهادات عدد من الأقلام في مسيرة جورج حبش النضالية.

شهادة د. خير الدين حسيب :جـورج حبـش رمـزُ العروبـة فـي فلسطيـن


جـورج حبـش
رمـزُ العروبـة فـي فلسطيـن

د. خير الدين حسيب*
حين أَقْدم المناضل الراحل جورج حبش – في بداية الخمسينيات من القرن الماضي – على تأسيس "حركة القوميين العرب" مع ثلّةٍ من رفاقه (وديع حدّاد، هاني الهندي، أحمد الخطيب...)، أصاب في اختيار الجواب السياسي السليم على واقعة الاغتصاب الصهيوني لفلسطين، الجواب الذي يقول: لا إمكان لمواجهة هذا الاغتصاب ولمواجهة المشروع الصهيوني برمّته إلا في نطاق خيارٍ قومي. حينها، كانت هناك حركة وطنية فلسطينية بقيادة رمزٍ وطني كبير هو الحاج أمين الحسيني. وكانت هذه الحركة قد قاتلت العصابات الصهيونية منفردةً أو مع "جيش الإنقاذ" العربي قتالاً مشرِّفاً قادهُ الشهيد عبد القادر الحسيني. ومع ذلك، مع شعور جورج حبش ورفاقه بعدم وجود فراغ سياسيّ وطنيّ، لم يكن مقتنعاً بأن الردّ السليم على ما جرى يمكن أن يكون فلسطينيّاً حصراً؛ لذلك بادر بتأسيس حركةٍ ذاتِ أفق قومي عربيّ، وصادف أن ميلاد الحركة حَصَل في مناخ التحوُّل الجديد الذي أفضى إلى ثورة 23 يوليو وصعود نجم عبد الناصر وميلاد مرحلة المدّ القومي.
وليس من شك في أن التكوينَ الفكري الذي تلقاه الدكتور جورج حبش في الجامعة الأميركية في بيروت في النصف الثاني من عقد الأربعينيات، حين كان يدرس الطب فيها، والأثرّ الكبير الذي تركتْهُ في وعيه دروسُ ومحاضرات الدكتور قسطنطين زريق في ذلك الحين – كما يعترف بذلك د. حبش – ثم مناخَ الحَرَاك السياسي النضالي الذي كان يطبع الحياة الجامعية في ذلك العهد ويحوّلها إلى ميدانٍ فسيح للحوار والجدل بين البعثيين والشيوعيين والقوميين السوريين، وصدى المواجهات بين المقاتلين الفلسطينيين وعصابات "شتيرن" ثم "الهاجاناه"، وصدى قضية فلسطين في السياسة الدولية والعربية قبل قرار التقسيم وبعده...، (ليس من شك في أنها جميعَها) شكَّلت مقدماتٍ صلبة لوعيه القومي الذي سرعان ما سيُصْقَل أكثر حين سيجد نفسَه متماهياً مع الخيار الناصري.
الحسّ بالمسؤولية التاريخية هو ما دفع الفقيد إلى ترك مهنة الطب والتفرُّغ للعمل القومي، وهو نفسُه الذي سيدفعه إلى ملازمة هذا العمل حتى حينما كانت ظروفُه الصحية لا تُسْعِفُه بالتفرغ الكامل. لكن حبش الشاب الذي زَهِدَ في الدنيا وآثَر التخلي عن مهنةٍ كانت تعني الكثير في سنوات الخمسينيات، هو عينُه حبش الشيخ الذي زَهِدَ في راحة الجسد وفي حقّ هذا الجسد المتعب في الراحة؛ ففي الحالين، كان نداءُ الوطن والأمة أعظم. وهو نداءٌ يَلْقَى من رجُلٍ من عيار جورج حبش النفسَ الطائعة والاستقبال الطيب، فكيف إذا كان هذا النداءُ أصرخَ في الضمير في اللحظات التي تُلِمُّ فيها بالوطن والأمة مُلِمّات كثيرة، هذه التي لم تتوقف منذ عقودٍ خَلَت، بل التي زادت وقائعُها السوداوية منذ ثلاثين عاماً بدرجةٍ أكبر.
الحسّ بالمسؤولية، ثانياً، هو ما أقنع جورج حبش ورفاقَهُ بإنهاء مرحلتهم الرومانسية الثورية في "حركة القوميين العرب" سريعاً، وطيّ صفحة شعاراتها كالثأر وما شَابَهَ، والانتقال إلى لحظة الارتباط بخط الناصرية السياسي والقومي. لقد أدرك أن الخيار القومي الذي تبناه منذ النكبة، والذي حاول أن يسير فيه بعيداً عن "حزب البعث" وعن فكرة "القومية السورية" وحزبها ("الحزب السوري القومي الاجتماعي")، لا يملك أن يجد تجسيدَه السياسي الفعلي إلا في خط الناصرية وبرنامجها الوطني والقومي، وخصوصاً بعد أن أثبت عبد الناصر أنه وحده يملك أن يرفع شعاراً ويطبّقه.
والحسّ بالمسؤولية، ثالثاً، هو ما حَمَل جورج حبش على الانضواء في الثورة الفلسطينية المسلحة بعد هزيمة 67 حتى لا يُرْهَن مصيرُ فلسطين بحرب عربية قد تتأخر، وحتى يكون شعب فلسطين شريكاً في قتال العدّو، وحتى لا تحتكر "فتح" وحدها البندقية الفلسطينية، وحتى لا يتكرس وهم الحل السياسي للصراع العربي – الصهيوني، وحتى لا تقع هدنة على الجبهات العربية مع الدولة الصهيونية، وحتى لا ينعم أمنُ إسرائيل بالطمأنينة والهناء فتتفرَّغ لمزيدٍ من الاستيطان وتهويد الأرض.
والحسّ بالمسؤولية التاريخية، رابعاً، هو ما دفع الفقيد إلى اتخاذ قرار بوقف "العمليات الخارجية" (الإرهاب الثوري وخطف الطائرات)، التي كان يشرف عليها ويديرها المرحوم وديع حدّاد، والعودة إلى خيار العمل الثوري الجماهيري الذي ينظم طاقات الشعب ولا يَقْبَل النيابة عنه في العمل الوطني بواسطة نخبة من المحترفين في العمليات الخاصة.
والحس بالمسؤولية التاريخية، خامساً، هو ما دفَعَهُ إلى رفض التنازل عن الحلّ الشامل الذي رسَمَهُ "الميثاق الوطني" لمنظمة التحرير أو قبول الحلّ المرحلي (= دولة فلسطينية في مناطق الـ 67) الذي تبناهُ المجلس الوطني الفلسطيني في عام 1974 وحسبانه مدخلاً للتفريط في الحقوق الكاملة للشعب الفلسطيني والأمة العربية...
ويطول بنا الحديث في بيان حسّ المسؤولية لدى الدكتور حبش والوجوه المختلفة التي عبّر فيها ذلك الحسّ عن نفسه. وهي جميعُها تقول شيئاً واحداً: بمقدار ما كان حبش متمسّكاً بالثوابت، لا يساوم عليها أو يتنازل، بمقدار ما كان يتمتع بالمرونة السياسية التي تسمح له بمراجعة خيارات في العمل الوطني ثَبتَ عدمُ نجاعتها أو ثبتَ قصورُها في تقدَّمِ حركةِ الثورة.

*    *    *

لم أَلْتَقِ الدكتور جورج حبش إلا في مناسباتٍ قليلةٍ جدّاً، كان آخرها في دمشق حين رغب في استشارتي بإنشاء مركز للدراسات، لكن الودّ والاحترام بيننا ظل مستمراً؛ وظل شعوري قويّاً بأنه الزعيم الفلسطيني الذي يمثل العروبة في قلب الثورة ومنظمة التحرير، والذي ظل مخلصاً للخيار القومي العربي في رؤيته إلى قضايا الصراع العربي – الصهيوني ومستقبل قضية فلسطين. ولا أضيف جديداً حين أقول إن هذه الصورة التي تكونت لديّ عنه تعرضت للاهتزاز في لحظة من التاريخ قبل أن يتبدَّد شحوبُ ملامحها فتعود إلى صفائها الأول.
حصل ذلك بعد حرب 67. كنتُ – مع جملةٍ من العروبيين من أبناء جيلي – مِنَ الذين اختلفوا مع الفقيد في شأن خياريْن أَقْدَمَ عليهما بعد النكسة بأشهر، وبَدَا لنا أَمْرُهُمَا شاذّاً عن طبيعة الرجل ووجدانه القومي العربي. أولهما قبوله بحَلّ "حركة القوميين العرب"، وثانيهما انعطافُه نحو تبنّي الأيديولوجيا الماركسية – اللينينية. وقد تلقيت هذه الأنباء من خلال مجلة "الحرية" وأنا في سجن الفضيليّة في بغداد. بَدَا لي حلّ "حركة القوميين العرب"، في حينِهِ، نكسةً جديدةً للعمل القوميّ، خاصة وأنها كانت حركة شعبية، بل الحركة القومية الوحيدة التي لم تكن في السلطة وإن كانت قريبة جدّاً من عبد الناصر، بل إلى حدّ التماهي مع مشروعه القومي. ثم لأنها نجحت في إِحداث اختراقٍ أفقي فعَّال لقسم كبير من الأقطار العربية في المشرق والخليج العربيين. وقد زاد من الحسرة على حلّها أن فروعها في فلسطين ولبنان والأردن والبحرين والكويت واليمن والعراق تحوَّلت إلى تنظيمات وطنية غير قومية، وأكثرها إلى تنظيمات يسارية ماركسية. أما انعطاف جورج حبش و"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" نحو الماركسية – وخاصة بعد انشقاق "الجبهة الديمقراطية" عنها في 1969 – فَبَدَا لي حينذاك متاهةً فكرية وسياسية كان جورج بالذات في غنىً عنها. وهو ما وَلَّدَ لي شخصيّاً، ولقوميين آخرين غيري، شعوراً بالإحباط من هذا المسار الجديد.
ولم يكن الشعور بالإحباط بسبب موقف رفضٍ فكريّ وسلبيّ كامل من الماركسية، فلقد انفتح القوميون على الكثير من التراث الاشتراكي في تصوّرهم للمسألتين الاقتصادية والاجتماعية، وإنما كان بسبب الاعتقاد بأن ذلك الانعطاف سيَحْرِف اتجاه القضية من التحرر الوطني والقومي إلى سيناريوهات أممية يَنُوء بحمْلها الواقع العربي ويَطرح على العمل السياسي جدولَ أعمالٍ من خارج نطاق ذلك الواقع.
لكن جورج حبش، القوميّ الأصيل، لم يَنْسَقْ انسياقاً كاملاً وراء اليوتوبيا اليسارية، إذ سرعان ما عاد إلى موقعه القومي: صوتاً عروبيّاً مجلجلاً وبوصلة قومية للنضال الفلسطيني. وهو دورٌ تضاعفَت قيمتُه في الساحة الفلسطينية بعد رحيل عبد الناصر وبعد طغيان نزعةٍ وطنية فلسطينية ضيقة هي نفسها التي ستأخذ منظمة التحرير إلى نفق "اتفاق أوسلو".

في الحديث عن جورج حبش، لا يملك المرءُ إلا أن يقف أمام عطائه موقفَ تقديرٍ واعتراف، وأمام ذكراه موقف إكبارٍ وإجلال.


*مدير عام مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت