السبت، 21 يناير 2012

شهادة د. خالد حدادة : جورج حبش «الحكيـم».. قـام.. حقـاً قـام


جورج حبش «الحكيـم».. قـام.. حقـاً قـام
  د. خالد حدادة*

في عمر لم يتجاوز الرابعة عشرة، وكنت قد بدأت بدفق عاطفي، فاقمه رحيل كبير أحببت فيه نفسي حتى الثمالة، هو جمال عبد الناصر، الذي كان الانتماء اليه في بيئتنا انتماء بالدم، وربما بتعبير العصر الحديث الجينات... وكنت قد بدأت أقرأ لجاري الأمي الصحف التي يشتريها هو ليقرأ له جاره الفتى (الذي هو أنا) تصريحات كمال جنبلاط، الذي انتميت له أيضاً يافعاً، بدأت أقرأ أسماء لم أكن أسمع بها في تلك العلبة الناطقة في بيتنا... لم تكن أسماء رؤساء ولا وزراء ولا هي أسماء مغنين وفنانين عرباً كانوا أم أجانب.
في تلك الصحف وبحس فطري في اتجاه القراءة ولو «المسروقة» من صحيفة الجار الذي كان يكتفي بتصريحات المعلم كمال جنبلاط، بدأت أقرأ أسماء لم تكن تنتمي إلى بيئتنا التقليدية، منها اسم واحد لمسميين اثنين: «جورج». جورج حبش وجورج حاوي.
ما لفتني في جورج الثاني أنه كان يحمل، باسم حزبه، لبنان إلى أفق عربي على صفحات أوراق يحشر فيها الانتماء القومي في الحديث عن الفقراء. كان التساؤل عندي وعند الشباب اللبناني العربي حينها لماذا الفقراء فقط عند الحديث عن العروبة، ومن هم هؤلاء في الحزب الشيوعي اللبناني، أليسوا سفارة الاتحاد السوفياتي في لبنان؟
وذلك الآخر، الجورج الآخر، يتحدث غالباً عن فلسطين وعن العروبة، فما باله اليوم يميل الى كلمات يرددها عادة الأول عن الطبقات والكادحين العرب والفلسطينيين وعملية التحرير والدولة الديموقراطية والعادلة الخ...
ومع ترقي المطالعة من صحف «أبو سعد الدين» إلى كتب النادي في الضيعة (برجا) الى النقاشات مع الشباب في الثانوية، بدأت أتلمس خطورة وأهمية التقاطع بين هذين النهجين: اليساري الشيوعي المحتج على اعتباره جالية أجنبية، وهو النهج الذي انخرط منذ بدايات القرن الماضي في مقارعة الاستعمار الأجنبي وقوى الاستغلال المحلي وبين الآخر المتجه مع فكره القومي للانحياز لفكرة أن الاستقلال والعروبة هي بالأساس مصلحة الفقراء في التنمية والعدالة الاجتماعية والتحرير.
وهكذا كان انتسابي إلى الحزب الشيوعي اللبناني في حقيقته إعلاناً للانتساب الى هذا الفكر المشترك. التقاطع الخلاق بين الانتماء لمصلحة الكادحين والفقراء ومصلحة الشعب في التنمية الديموقراطية وبين ضرورات وفكرة التحرير الوطني بما هي تحرير للأرض وللثروات والقرار السياسي.
اليوم أراني في الظرف العربي الراهن، بحاجة الى «إعادة انتساب»، أو إعادة قراءة للوضع السياسي العربي وحالته الراهنة وإعادة انتساب الى فكر أولئك الثوريين الذين أضافوا الى جمال غيفارا صورته وسمرته العربية.
اليوم نرانا وقد رحل «الحكيم» بحاجة الى استعادة متنورة لمنطق رفض البديهيات التي تحكم العقل العربي اليوم. منطق رفض الخضوع باسم «الواقعية»، وذلك لإعطاء بعد جديد لواقعية ثورية تفهم البديهيات ولا تقع تحت سيطرتها.
كيف لا، وأنا انتظرت سنوات طوالاً، لأحقق أحد أحلامي الصغيرة، بلقاء ذاك الكبير، بعد أن كنت قد حققت حلماً صغيراً آخر بلقاء «سميه» جورج حاوي.
إلتقيت بـ«الحكيم» وكان قد أصبح «القائد المؤسس» ولم يعد في موقع «الأمين العام» الذي تركه بخياره وبحسه الديموقراطي في التنظيم. نعم هذا «الإرهابي» الذي كان ديموقراطياً نقيضاً «للديموقراطيين» الذين ملأوا وطننا العربي بالدماء والإرهاب من العراق الى فلسطين الى لبنان.
إلتقيت «الحكيم» أو «القائد المؤسس» مرات عدة مذ ذاك وكنت أصبحت أميناً عاماً.. و«للكيمياء» شؤون. وبسرعة لم يعد يترك «الحكيم» مناسبة إلاّ ويبرق فيها «صفحات عدة» للحزب الشيوعي اللبناني. ولم يترك رفاقه «الماكرون» في الشام أو في لبنان مناسبة للجبهة الشعبية إلاّ ويبلغوني باسم جورج حبش رغبته بأن أكون حاضراً وكنت أقبل بعد تردد مصطنع مشترطاً لقاءه، ولم يعرفوا أنني كنت أنتظر هذه المناسبات.
في سنواته الأخيرة التي لم يأخذ منها ساعات قليلة من الراحة، شغله كما في بداياته، هم البحث عن رد على «البديهيات المربكة» لليسار أو لبعضه. للثورة أو لبعضها. ما الذي جرى؟ كان جوابنا على النكسة إعلان المقاومة ووحدتها وتنوعها. كان جوابنا عليها تلك العلاقة الجدلية ما بين القرار الوطني الفلسطيني المستقل والتكامل مع الشعوب والحركات التقدمية والقومية العربية.
لاقينا «لاءات» الخرطوم التي أبدعها عبد الناصر، بإعلان فعل المقاومة وإعادة الاعتبار في العالم لحق الشعب الفلسطيني وبلورة قضيته.
كيف نرد اليوم على البديهيات التي يحاول الأميركي فرضها علينا، بمشروع الشرق الأوسط الجديد كي يفرض علينا خياراً مراً ما بين الخضوع لسيطرته وجبروته وإرهابه أو الخضوع لخيار الظلامية التي تلاقيه الى منتصف الطريق، أو الالتحاق بركب الأنظمة العربية وقمعها وفسادها وتسلطها ملوكاً وأمراء ورؤساء. بديهة رماها بوش وتلقفها بعض «العرب» ومنهم للأسف عبدة البديهيات، الماركسية سابقاً عندما حفظوا «آياتها» وكانوا بطاركتها... والمفتين والديمقراطية اليوم عندما بدأوا بتعلمها بعيداً عن عمر «النقش بالحجر». عليكم ان تختاروا ما بين بوش وبن لادن أو بينهما وبين استمرار الأنظمة العربية والنظام الرسمي العربي.
كان الرد الثوري لجورج حبش عبر مركز أبحاثه المتواضع «الغد». رفض هذه الخيارات بالإحساس والبداهة والدعوة لبلورتها بالأبحاث والحوار والعلم وترك الجمود مع التمسك بالمبادئ بما هي حقوق، وليس مسلمات.
حسه الذي دفعه لتأسيس الجبهة الشعبية في أواخر الستينيات كان مدعوماً بعلم يقول التفاوض مع الضعف تسليم بالهزيمة. ودفعه بعد الانهيارات الكبرى للقول إن القبول بالبديهيات في عصر الهزائم هو تخل عن القضية والذات والمبادئ.
انتصر «الحكيم» لفكرة لبنان بمقاومته وبتحالفه التموزي الرائع بين المقاومة والشعب، ففرح كطفل وهذا الشعور بالثقة والفرح عنده منع الحزن الذي رافق رحيله مع حصار غزة «الإسرائيلي ـ العربي» وكان له من غزة ما أراد عندما اقتحم نساؤها وأطفالها المعابر المصطنعة خصوصاً بينها وبين مصر عبد الناصر.
في الأربعين لرحيل الحكيم، القائد المؤسس، عاد الصراع بخلفياته الثلاث الوطنية، الاجتماعية والسياسية الديمقراطية ليأخذ أبعاده باتجاه بلورة حركة مقاومة تحمل مشروعاً للتغيير في العالم العربي. مشروعاً يقدم حلاً للقضية الوطنية وللتنمية والعدالة الاجتماعية وللبنى والمؤسسات الديموقراطية على المستوى العربي العام وفي كل دولة عربية، مقاومة غير فئوية، مقاومة لا تحدها الإيديولوجيا بل تتفاعل معها الإيديولوجيات بما تعنيه من تمسك بالحقوق والمبادئ.
مقاومة ترفض الانتماء للطبالين العراة للراقصة «كوندي» الآتية على متن المدمرة «كول»، ناشرة الموت والإرهاب. معلنين أن هذا الساحل سيبقى كما أراده فرج الله الحلو وجورج حاوي وكمال جنبلاط كما جمال عبد الناصر وجورج حبش وياسر عرفات وأحمد ياسين (ذكرنا من رحل) أرادوه منبتاً لحركة عربية مقاومة وديموقراطية وليس ساحلاً يرقص فيه طرباً من لم يعد يحتمل حتى ورقة التين.
في أربعينه، نقول «الحكيم» قام.. حقاً قام. أليس فعل القيامة ما قام به الشهيد علاء رداً على مجازر غزة؟ فلننتظر رفاق وأخوة «علاء» وليس قمماً يلتئم فيها من لم يعد يملك حتى سيفاً. لأن تلك السيوف أصبحت في البيت الأبيض تقبع فوق أموال وثروات أمتنا وشعوبنا.. في خزانة الإدارة الأميركية وخزانة إسرائيل.
* الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق