السبت، 21 يناير 2012

شهادة الأب الياس زحلاوي عن الدكتور جورج حبش .


 هلا سَرّعتَ الخطى، أيها الغرب!

- الأب الياس زحلاوي -
مدهشة هي السرعة التي تغيّرت فيها، على نطاق الغرب كله، الموازين السياسية كلها، وما استتبعها، على نطاق العالم، من موازين فكرية ودبلوماسية وإعلامية واقتصادية. 

 والمدهش أكثر هو التوقيت الذي انطلق فيه هذا التغيير!فما كاد الغرب الأوروبي يتحرر من التهديد والاحتلال النازيين، اللذين استعان عليهما بالقوتين العظميين آنذاك، الأميركية والسوفيتية، واللذين أدانهما في محاكم "نورمبرغ"، إدانة بدا معها العالم كله وكأنه يطوي إلى الأبد صفحة كل ظلم واستعمار... حتى كُشِف النقاب، بعد فترة وجيزة، عن مخطط استعماري جديد، تكشفت جذوره منذ عام 1917، وبسط فروعه منذ ذلك الحين، في كل اتجاه، حتى طلع على العالم، عام 1947، بقرار دولي غير مسبوق، سخّر له هيئة الأمم المتحدة بالذات، فقسّمت فلسطين، وتسابق الكبار إلى الاعتراف بدولة يهودية، لاقت من الدعم البريطاني أولاً، ثم العالمي، ومنه العربي، ما حوّلها في سنوات قليلة إلى دولة نووية، قادرة على دحر "أقوى" الجيوش العربية، مجتمعة، مرة تلو أخرى، وعلى احتلال المزيد من الأراضي العربية، بعد أن شتّتت منذ عام 1948، قتلاً وتهجيرا، مئات الألوف، بل الملايين من العرب في فلسطين ومصر والأردن وسورية ولبنان. وجاء يوم أزالت فيه ما تبقى من "فلسطين الأمم المتحدة"، تحت سمع العالم وبصره. ثم جاء يوم آخر، أعلنت فيه أوربا، بعد أميركا، أن كل مقاوم لإسرائيل، هو "إرهابي"!

كان ذلك ليلة السادس إلى السابع من أيلول (سبتمبر) عام 2002. وبذلك أسدل الستار على صفحة مشرقة من ماضي التاريخ العالمي البائس، حيث كان المحتل يسمى محتلاً، ويجد دائماً من يتعاون على مقاومته وطرده، ثم محاكمته!

وافتتحت صفحة جديدة من تاريخ العالم، بدءاً من فلسطين، صفحة مخزية بات فيها المحتل هو صاحب الحق، وهو وحده من يجد، لدى القوى الكبرى والصغرى معاً، ولدى المؤسسات الدولية، بل حتى لدى معظم الدول العربية، جميع أنواع الدعم والتبرير، بل الاستمرار في البقاء والتوسع! أما صاحب الحق الأصلي، أية كانت أرضه، وأياً كان انتماؤه، فقد بات "إرهابياً"، يجب القضاء عليه بكل وسيلة... بالقتل... بالحرق... بالسجن... بالتجويع... بالتشريد والتهجير... بالحصار... حتى لو كان حصاراً يفرض براً وبحراً وجواً، على مليون ونصف مليون إنسان!

هذا التبدّل المروّع تحقق في فترة قياسية، وفُرِض فرضاً على جميع المؤسسات الدولية، واجتاح من خلال وسائل الإعلام الغربية، المهيمنة على مستوى العالم، العقول والقلوب والأقلام والشاشات، فساد وكأنه مُسلَّمة بديهية، لا تجوز حتى مناقشتها!

والغريب في الأمر أن كل هذا التغيير تحقق لصالح بلد واحد في الدنيا كلها، بلد اصطنع منذ ستين عاماً على حساب فلسطين، وسُمِح له بخرق كل ما هو دولي، من أعراف ومعاهدات وقرارات وحدود، كما سَمحَ لنفسه بتدمير ما يحلو له من بشر وبلدان من حوله، ونهب ثرواتهم ومياههم، بل حتى ترابهم، وتزوير تاريخهم القديم والحديث، كل ذلك دون أن يجرؤ أحد من ذوي الشأن على نطاق الدول والمؤسسات الدولية، أن يوجّه لهذا البلد مجرد ملاحظة!

واضح أن ذلك التغيير المفجع حدث في معاكسة تامة لمسيرة البشرية، الساعية منذ مئات السنين، لإرساء نهج سياسي ودبلوماسي، دولي، يرمي إلى إحداث توازن عالمي يقي البشرية الحروب والمظالم، ويكافح المرض والفقر والجوع، ويشيع العدالة والطمأنينة والسلام في العالم كله.
وقد أتضح أيضاً بما لا يدع مجالاً لأي شك، أن مَن يتولى هذا النهج الدولي، المعاكس لمنطق التاريخ ولرغبات الشعوب، إنما هو طغمة من أقطاب اللوبي الإسرائيلي في مختلف إدارات الولايات المتحدة. ولما كانت هذه تهيمن على نحو مكشوف منذ عشرات السنين، ولاسيما منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، على معظم الهيئات الدولية، وعلى رأسها هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، والإدارات المختلفة المنبثقة عنهما، والمنتشرة في العالم، بات واضحاً أيضاً أن لعبة الأمم كلها أصبحت مسرحاً للّوبي الإسرائيلي، القابض على الأقطاب الثلاثة التي تتحكم بمصير البشرية، اليوم ولمستقبل بعيد، وأعني بها قطب الولايات المتحدة الأميركية، وقطب الاتحاد الأوربي، وقطب الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات.

للوهلة الأولى، ينتصب هذا التغيير المفاجئ، في نظر كل مراقب ومتتبّع، مثل جدار ضخم ارتفع حول العالم، ليحيله إلى سجن حقيقي! وقد يُوهم من خططوه ورفعوه، أنه بات أعظم من أن يتاح لأحد سواهم، أن يفتح فيه ولو شرخاً صغيراً. إلا أن الشروخ فتحت منذ إنشائه! وكان أول فاتحيها، مخططي هذا الجدار بالذات، من أمثال "بن غوريون" و"جابوتنسكي" و"غولدامئير" و"شارون"، الذين أكدوا دائماً وصريحاً، في كتاباتهم ومواقفهم وسياساتهم، ضرورة استخدام العنف والإرهاب، نهجاً أوحد لا غنى عنه، من أجل بناء دولتهم! ولكم أسكرت قوة طارئة ظالمين قبلهم، فأنستهم أن الإرهاب ما شكل يوماً قاعدة لحق أو لبقاء!

والحقيقة أن أولى الأصوات الخارجة على هذا النهج، كانت أصواتاً إسرائيلية، آمنت، بادئ الأمر في سذاجة، بالحلم الصهيوني في فلسطين، ثم كان أن اكتشفت في هول، ما تحول إليه هذا الحلم، وما سبّب ويسبّب من دمار لليهود قبل العرب. فنهضت تعارض، واستنهضت الضمائر داخل "إسرائيل" وخارجها، فكتبت وشرحت وبيّنت بالدليل والأرقام والوقائع، هول ما حدث ويحدث في "إسرائيل"، وفي ما تبقى من فلسطين، وهول ما جلب للشرق كله، وما قد يجلب للعالم بأسره!

حسبي أن أذكر من هؤلاء الكثيرين، بعضهم، دون أي تعليق. فأسماؤهم وعناوين مؤلفاتهم تحمل الكثير الكثير للمطالع العادي، فكيف بي بالباحث! منهم "إسرائيل شاحاق"، مؤلف كتاب "عنصرية دولة إسرائيل" (عام 1976). والصحفي "إيلان هاليفي"، مؤلف كتاب "تحت إسرائيل، فلسطين" (عام 1978)، والمؤرخ الإسرائيلي "دومينيك فيدال" ، مؤلف كتاب "خطيئة إسرائيل الأصلية" (عام 1998). والمحاضِرة الجامعية الإسرائيلية "تانيا راينهارت" مؤلفة كتاب: "اسرائيل/ فلسطين، سبل إنهاء حرب 1948"، (عام 2002). والباحثة الإسرائيلية "سوزان نايثن"، مؤلفة كتاب "الوجه الآخر لإسرائيل" (عام 2006).

وكان أن ارتفعت أصوات أخرى من أوروبا، أحدثت شروخاً أخرى، أعمق، في هذا الجدار "الكتيم". وحسبي أيضاً أن أذكر بعضها. أولها وأبرزها كان صوت الفيلسوف الفرنسي اليهودي "عمانوئيل ليفين" في كتاب له مدوّ بعنوان: "اليهودية ضد الصهيونية" (عام 1969). وجاء صوت "روجيه غارودي"، أولاً في كتابه المزلزل: "الأساطير المؤسسة لسياسة إسرائيل" (عام 1996 )، ثم في كتابه :"الإرهاب الغربي" (عام 2006). ثم صوت الباحثة الفرنسية الشابة "ليتيسيا بوكاي" في كتابها "النبوي" : "غزة: عنف السلام" (عام 1998). ثم صوت البطريرك العربي ميشل صباح، في كتابه المنشور بالفرنسية: "سلام في القدس" (عام 2002). وصوت الباحث الفرنسي "إينياسيو رامونيه" في كتابه: "حروب القرن الحادي والعشرين" (عام 2002). وصوت العالم الاقتصادي السويسري " جان زيغلر" في كتاب بعنوان: "امبراطورية العار" (عام 2005).
إلا أن بعض أهم الأصوات ارتفعت من قلب البلد الذي ساعد الصهيونية على رفع جدار العار في فلسطين، وجدار الرعب على نطاق العالم، أعني به الولايات المتحدة الأميركية، بعد أن أتاحت للصهيونية أن تمتطيها، لتسخرها بكل ما لها من وزن وعلم وقوة وثروة، لتحقيق سياستها الرامية إلى الهيمنة على العالم.

من هذه الأصوات، صوت الباحث "جيمس هيبورن" في كتابه "المؤامرة" (عام 1968). وصوت الباحث "إدوارد تيفنان" في كتابه: "اللوبي: قوة اليهود السياسية، والسياسة الخارجية الأميركية" (عام 1987). وصوت الباحث "بول فيندلي" في كتابيه الشهيرين: "الذين لا يجرؤون على الكلام" (عام 1989) و"خيبات متعمدة" (عام 1993). وصوت الباحث "روبير دول" في كتابه: "الكابوس الأميركي"(عام 1996). وصوت الباحث اليهودي "نورمان فينكلشتاين" في كتابه الشهير: "صناعة الهولوكست" (عام 2000). وصوت "ديفيد ديوك"، العضو الأسبق في مجلس الشيوخ الأميركي، في كتابه: "الصحوة: النفوذ اليهودي في الولايات المتحدة الأميركية" (عام 2002). وصوت كل من "ستيفن والت" و"جون ميرشايمر"، في كتابيهما: اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية" (عام 2007). وصوت الرئيس الأميركي الأسبق، "جيمي كارتر"، في كتابه "فلسطين: سلام، لا فصل عنصري". وأخيراً – وليس آخراً – صوت اليهودي "نعوم شومسكي" في كتابه المشترك مع "جلبير أشقر" : "ألغام الشرق الأدنى" (عام 2007).

جميع هذه الأبحاث، المنشورة والمعروفة، شخّصت وتشخّص الواقع العالمي، الجديد والخطير، بالوقائع والأحداث والأرقام، في شجاعة كادت أن تكلف بعض واضعيها، الحياة أو الحرية، لولا أنه استبق خصومه، وهجر " الوطن الحلم" الذي كان قد هاجر إليه، كما فعل "إسرائيل شاحاق"، ولولا أنه قاوم ودافع عن نفسه أمام الرأي العام الفرنسي والدولي، قبل أن يفعل أمام المحاكم الفرنسية، كما حصل لروجيه غارودي. ولابد من كلمة حق بشأن جميع هذه المؤلفات، وهي أنها باتت كلها تشكل مراجع لا غنى عنها لدراسة التاريخ المعاصر، اليوم ولمستقبل بعيد. إلا أن لي ملاحظتين بشأنها تبدوان لي من الأهمية بمكان.

الأولى، أن معظم هذه الأبحاث، انتهت، بصورة أو بأخرى، إلى نقطة حاسمة، كان مفكر عربي، هو نجيب عازوري، قد استنتجها على نحو صريح منذ عام 1905، في كتاب له بعنوان: "يقظة الأمة العربية"، نشره بالفرنسية في باريس. وقد قال يومها أن الصراع بين القومية اليهودية الناشئة، والقومية العربية سوف يشكل خطراً صريحاُ على السلام العالمي، وسوف لن ينتهي إلا بزوال إحدى القوميتين!

الثانية، أن أحداً من هؤلاء الباحثين والباحثات، وقد تصدّوا في أمانة علمية للصراع العربي الإسرائيلي، في أصوله ووجوهه وتطوراته وأبعاده المختلفة، لم يتناول بالبحث سوى شخصية فلسطينية مركزية واحدة، هي ياسر عرفات. وحتى الذين أجروا أبحاثاً ميدانية، طويلة ومدهشة بواقعيتها ودقة ملاحظتها وحدة استشرافها المستقبلي، كما فعلت الفرنسية "ليتيسيا بوكاي"، والإسرائيلية "سوزان نايثن"، لم يخطر مثل هذا المشروع ببالهم. فجاءت أبحاثهم، على ما تنطوي عليه من غليان بشري، صادق وجذاب ومؤلم في آن واحد، خالية إلى حد بعيد من الحضور الشخصي لأي من الزعماء المركزيين، في نشأته العائلية، الروحية والنفسية، وتربته الاجتماعية والثقافية والعلمية، وتطوره الإنساني والفكري، والتزامه النضالي والقتالي، وحضوره السياسي، على الصعيد الفلسطيني والقومي العربي، والعالمي، وعلاقاته الشخصية، العائلية والنضالية والعالمية...
ومن شأن مثل هذا الغياب الإنساني، أن يباعد بين القارئ الغربي والأجنبي، والقضية المطروحة، مهما كانت حارقة.

والحال أن هذا الجانب الإنساني بالذات، هو الذي توفر في كتاب الصحفي الفرنسي "جورج مالبرونو"، على نحو طبيعي، خال من أي تصنع أو افتعال. وهو الذي يضفي على كتابه "جورج حبش"، أهمية لا تقدر بثمن على صعيد التعريف بالصراع العربي-الإسرائيلي. إنه، حقاً، أول كتاب فرنسي، في حدود علمي، يتحدث بإحدى اللغات العالمية، عن الصراع العربي الإسرائيلي، في موضوعية رصينة، ولكنها لا تخفي بعض تعاطفها مع جوانب هامة من شهادة زعيم فلسطيني استثنائي، شغل الناس، بل زلزلهم، حتى يوم حُمِل مريضاً إلى فرنسا، ولكنه لم يخرج يوماً عن كونه، أولاً وأخيراً، إنساناً، حتى في اخطر ساعات حياته النضالية، يوم اختطاف الطائرات الأربع في حزيران من عام 1970. ومن كان في شك من ذلك، فليقرأ نص الخطاب الذي إرتجله باللغة الإنكليزية، فجر 12/6/1970، أمام ثلاثمائة صحفي أجنبي، احتجزوا كرهائن في فندق "الإنتركونتيننتال" بعمان من قبل فدائيي الجبهة الشعبية. وكم أحسن المؤلف بإلحاقه بكتابه في الصفحات (305-307). إنه حقاً آية في البلاغة والإيجاز والنبل الإنساني والوضوح الثوري.

من الواضح أن المؤلف الصحفي حاول أن يرافق "جورج حبش" الإنسان في أدق تفاصيل حياته، من منشئها حتى غروبها. وترك له أن يقول للقارئ الغربي، ما كان ومن كان طفلاً وشاباً عربياً من اللد، ومن كان أهله، والداه، إخوته وأخواته، ومن كان أهل بلدته، وإيمانه المسيحي التقليدي البسيط والمنفتح على نحو طبيعي جداً، نحو كل عربي ويهودي في فلسطين آنذاك. وما كان طموحه في دراسة الطب، وفضوله العلمي والثقافي، وتطلعه العروبي ونشاطه، العلني والخفي، في نطاق الجامعة الأمريكية ببيروت، وحتى هواياته مثل الغناء والسباحة. وما آل إليه كل ذلك، دفعة واحدة، يوم طعن في كامل وجوده، في بيته، في أهله، ولاسيما أخته "فوتين"، التي قتلت ودفنت في حديقة البيت، في جيرانه، في بلدته اللد، في مواطنيه، في كرامته وكرامتهم، وقد طردوا بين ليلة وضحاها من بيوتهم وأرضهم وبلدتهم ووطنهم، فقتل منهم من قتل تحت عينيه وشردوا واكتشف في رعب أنهم يُسحقون جميعاً تحت آلة ظالمة، كان أصحابها بالأمس يعيشون وإياهم جنباً إلى جنب آلة دخيلة كبرت فجأة ووجدت من مؤيديها الغربيين، وعلى رأسهم بريطانيا، من يؤيدها في ظلمها، فيما تتخاذل الجيوش العربية أو تدحر وإذ به ينقلب بين لحظة وأخرى، إلى ثائر يبحث عن متنفس لثورته، وعن أعوان وطالت المعاناة، وثقلت إلا أن الزمن والخبرة المرة وإعمال الفكر حوّل هذا الثائر الهائج إلى مناضل مفكر، لم يعد يجد من معنى لوجوده وإيمانه، إلا في كفاح وتضحية يرميان إلى تحرير الإنسان الفلسطيني بعودته في كرامة إلى وطنه، وإلى توحيد الوطن العربي، شرطاً لا غنى عنه لقوة عربية تعيد لفلسطين حقوقها، وتصون حقوق الشعوب العربية مما هو قادم وكان أن أسس أولاً حركة القوميين العرب، ثم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين...

قد يرى بعضهم أن الصحفي الفرنسي أغفل جوانب هامة من حياة جورج حبش. إلا أني أرجح أنه أرغم على إغفالها، كي لا يحول دون إصدار هذا الكتاب، في مجتمع فرنسي، بات من المعروف أنه أطلق العنان في جنون لجميع الحريات، إلا حرية الكلمة التي تمس أو قد تمس اليهود وإسرائيل!
وإني لأؤكد لكل من يشك في سلامة موقف هذا الصحفي الفرنسي، أنه قام بإنجاز كبير، لمجرد اقناع الناشرين بنشر هذا الكتاب. وقد يكون بعضهم ندم لنشره ! فإن كل عارف بواقع المجتمع الفرنسي، يقر بصواب هذا الرأي، وبقيمة مثل هذا الكتاب الاستثنائي، في مثل هذه الظروف البالغة الحساسية!
وقد أراحني ما يسري في صفحات هذا "الكتاب الاعتراف"، من نبض إنساني صادق على لسان جورج حبش، احترم الصحفي الفرنسي إيقاعه الحي، ورافقه في كل تعرجاته وخلجاته. ولكم وجدتني أعيد قراءة بعض الصفحات، وقد أخذت بها وبما بدا لي تناغماً روحياً بين "المتحاورين"، على عمق الهوة القائمة في الأساس بينهما. ووجدتني أحياناً كثيرة أتساءل: من أين لهذا الصحفي الغربي مثل هذه القدرة على الانسياب في احترام، بل في مودة أحياناً، إلى أعماق "الحكيم" الذي كان الغرب كله يرى فيه، طوال حياته، "إرهابياً" من نمط "استثنائي"؟ أتراه اكتشف حقيقة القضية المطروحة، على نحو ما، فتعاطف معها ولو جزئياً، حرصاً منه على حياته وعمله؟ أم تراه أخذ بشخصية "الحكيم" الحقيقية، وقد وجده إنساناً حقيقياً، لا يريد سوى الكرامة لكل إنسان، فصمم على الكشف، أمام قرائه الغربيين، على أعماقه الإنسانية الحقيقية، لا المصورة إعلامياً، بما يختلج فيها كل لحظة من إيمان صادق، وحب متعدد الوجوه، ونقاء في استقامة السيف، وانسجام ذاتي، وترفع أسطوري عن أشد المغريات فتكاً، وقدرة عجيبة على تحميل قلبه وجسده، في ظروف صحية خطيرة، أثقالاً تنوء بها الجبال؟ ولكم أفرحني حديثه عن حياة "جورج حبش" العائلية، وقد ارتبط بنسيبة له هي هيلدا حبش، تبيّن أنها كانت صنواً له في الإيمان والبذل والتضحية والصمود والذكاء والشجاعة. وقد رزقا طفلتين عرفا كيف يوفران لهما، كل على طريقته وبأسلوبه، وسط ظروف عادية واستثنائية جداَ، الحضور والحنان والأمان والتربية الصلبة، وقد ابتدع كل منهما، من موقعه، أساليب يعوضان بها طفلتيهما عن غياب الأب المتكرر عن "منزل" كان، أحياناً كثيرة، أشبه بجحر متنقل من حي لحي ومن بلد لبلد

كل ذلك يضع القارئ الغربي أمام لوحة لجورج حبش، مختلفة بالكلية عن تلك التي رسمتها له جميع وسائل الإعلام الغربية، بوصفه الإرهابي الفلسطيني الأكبر! وفي حين استطاع هذا الإعلام أن يقلب الحقائق رأساً على عقب، بل أن يغيبها كلياً لفترات طويلة، حتى يرفع جداراً كثيفاً بين كل غربي وحقيقة الصراع العربي الإسرائيلي، وليزج بكل غربي في خانة التأييد التام والمسبق لإسرائيل، وجدتني أنا العربي، الذي عرف الغرب معرفة شخصية وطويلة، منذ عام 1955، ويتابع تطوراته المختلفة، أقول، وجدتني وأنا أطالع الكتاب، أمام إنسان يحاور بصدق إنساناً، بأسلوب صافٍ، هادئ، موضوعي، مريح، لا يسع المطالع الغربي إلا أن يطل من خلاله، على نحو تدريجي وعقلاني، على آفاق جديدة، مفاجئة ومغايرة لكل ما كان ألفه!
أخيراً، ثمة سؤال أود طرحه على هذا الصحفي الفرنسي، وأرجو أن يتاح لي طرحه عليه ذات يوم. ترى، ما هو التغيير الذي طرأ عليه هو بالذات، على فكره وعلى يقينه وعلى التزامه، منذ أن نوى محاورة جورج حبش، ثم خلال الساعات المائة التي قضاها معه في هذا الحوار، ثم طوال الأسابيع أو الأشهر التي قضاها في تأليف هذا "الكتاب-الاعتراف"ـ كما شاءه وكما أيده في ذلك "الحكيم" ـ حتى لحظة انتهائه من كتابته؟...
وقد لا يكون أبرز وجوه هذا التغيير ما جاء تحت قلمه في ختام مقدمة الكتاب، حيث قال بصريح العبارة:
"يرى جورج حبش" ان الثوري سوف لن يموت أبداً". إلا أن هذا المسؤول، وقد بلغ غروب العمر، يعتقد أن الحل الوحيد للمعضلة الإسرائيلية ـ الفلسطينية هو في إنشاء دولة علمانية ذات قوميتين، يعيش فيها، كما بالأمس،اليهود والعرب، مسلمون ومسيحيون ويهود، عيشاً مشتركاً. هذا غير واقعي اليوم؟ بالتأكيد. ولكن جورج حبش يضع معركته في منظور تاريخي. وهو يرى أن إسرائيل لن تقدم تنازلات حقيقية على طاولة المفاوضات، ما لم ينقلب ميزان القوى، بفعل استمرار الصراع المسلح وتكثيفه. بوسع المرء ألا يأخذ بوجهة نظره هذه. إلا أن إخفاق خمسة عشر عاماً من المفاوضات، يقر بأنه، على نحو ما، مُحِق"...
حقاً، لقد وصلت الرسالة. وعساها تحمل المزيد من الغربيين على تسريع الخطى نحو فلسطين علمانية وحرة، تنهار فيها كل الجدران، جدران الكذب والعزل والقتل والظلم والحصار، قبل فوات الأوان!...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق