الثلاثاء، 24 يناير 2012

شهادة د. خير الدين حسيب :جـورج حبـش رمـزُ العروبـة فـي فلسطيـن


جـورج حبـش
رمـزُ العروبـة فـي فلسطيـن

د. خير الدين حسيب*
حين أَقْدم المناضل الراحل جورج حبش – في بداية الخمسينيات من القرن الماضي – على تأسيس "حركة القوميين العرب" مع ثلّةٍ من رفاقه (وديع حدّاد، هاني الهندي، أحمد الخطيب...)، أصاب في اختيار الجواب السياسي السليم على واقعة الاغتصاب الصهيوني لفلسطين، الجواب الذي يقول: لا إمكان لمواجهة هذا الاغتصاب ولمواجهة المشروع الصهيوني برمّته إلا في نطاق خيارٍ قومي. حينها، كانت هناك حركة وطنية فلسطينية بقيادة رمزٍ وطني كبير هو الحاج أمين الحسيني. وكانت هذه الحركة قد قاتلت العصابات الصهيونية منفردةً أو مع "جيش الإنقاذ" العربي قتالاً مشرِّفاً قادهُ الشهيد عبد القادر الحسيني. ومع ذلك، مع شعور جورج حبش ورفاقه بعدم وجود فراغ سياسيّ وطنيّ، لم يكن مقتنعاً بأن الردّ السليم على ما جرى يمكن أن يكون فلسطينيّاً حصراً؛ لذلك بادر بتأسيس حركةٍ ذاتِ أفق قومي عربيّ، وصادف أن ميلاد الحركة حَصَل في مناخ التحوُّل الجديد الذي أفضى إلى ثورة 23 يوليو وصعود نجم عبد الناصر وميلاد مرحلة المدّ القومي.
وليس من شك في أن التكوينَ الفكري الذي تلقاه الدكتور جورج حبش في الجامعة الأميركية في بيروت في النصف الثاني من عقد الأربعينيات، حين كان يدرس الطب فيها، والأثرّ الكبير الذي تركتْهُ في وعيه دروسُ ومحاضرات الدكتور قسطنطين زريق في ذلك الحين – كما يعترف بذلك د. حبش – ثم مناخَ الحَرَاك السياسي النضالي الذي كان يطبع الحياة الجامعية في ذلك العهد ويحوّلها إلى ميدانٍ فسيح للحوار والجدل بين البعثيين والشيوعيين والقوميين السوريين، وصدى المواجهات بين المقاتلين الفلسطينيين وعصابات "شتيرن" ثم "الهاجاناه"، وصدى قضية فلسطين في السياسة الدولية والعربية قبل قرار التقسيم وبعده...، (ليس من شك في أنها جميعَها) شكَّلت مقدماتٍ صلبة لوعيه القومي الذي سرعان ما سيُصْقَل أكثر حين سيجد نفسَه متماهياً مع الخيار الناصري.
الحسّ بالمسؤولية التاريخية هو ما دفع الفقيد إلى ترك مهنة الطب والتفرُّغ للعمل القومي، وهو نفسُه الذي سيدفعه إلى ملازمة هذا العمل حتى حينما كانت ظروفُه الصحية لا تُسْعِفُه بالتفرغ الكامل. لكن حبش الشاب الذي زَهِدَ في الدنيا وآثَر التخلي عن مهنةٍ كانت تعني الكثير في سنوات الخمسينيات، هو عينُه حبش الشيخ الذي زَهِدَ في راحة الجسد وفي حقّ هذا الجسد المتعب في الراحة؛ ففي الحالين، كان نداءُ الوطن والأمة أعظم. وهو نداءٌ يَلْقَى من رجُلٍ من عيار جورج حبش النفسَ الطائعة والاستقبال الطيب، فكيف إذا كان هذا النداءُ أصرخَ في الضمير في اللحظات التي تُلِمُّ فيها بالوطن والأمة مُلِمّات كثيرة، هذه التي لم تتوقف منذ عقودٍ خَلَت، بل التي زادت وقائعُها السوداوية منذ ثلاثين عاماً بدرجةٍ أكبر.
الحسّ بالمسؤولية، ثانياً، هو ما أقنع جورج حبش ورفاقَهُ بإنهاء مرحلتهم الرومانسية الثورية في "حركة القوميين العرب" سريعاً، وطيّ صفحة شعاراتها كالثأر وما شَابَهَ، والانتقال إلى لحظة الارتباط بخط الناصرية السياسي والقومي. لقد أدرك أن الخيار القومي الذي تبناه منذ النكبة، والذي حاول أن يسير فيه بعيداً عن "حزب البعث" وعن فكرة "القومية السورية" وحزبها ("الحزب السوري القومي الاجتماعي")، لا يملك أن يجد تجسيدَه السياسي الفعلي إلا في خط الناصرية وبرنامجها الوطني والقومي، وخصوصاً بعد أن أثبت عبد الناصر أنه وحده يملك أن يرفع شعاراً ويطبّقه.
والحسّ بالمسؤولية، ثالثاً، هو ما حَمَل جورج حبش على الانضواء في الثورة الفلسطينية المسلحة بعد هزيمة 67 حتى لا يُرْهَن مصيرُ فلسطين بحرب عربية قد تتأخر، وحتى يكون شعب فلسطين شريكاً في قتال العدّو، وحتى لا تحتكر "فتح" وحدها البندقية الفلسطينية، وحتى لا يتكرس وهم الحل السياسي للصراع العربي – الصهيوني، وحتى لا تقع هدنة على الجبهات العربية مع الدولة الصهيونية، وحتى لا ينعم أمنُ إسرائيل بالطمأنينة والهناء فتتفرَّغ لمزيدٍ من الاستيطان وتهويد الأرض.
والحسّ بالمسؤولية التاريخية، رابعاً، هو ما دفع الفقيد إلى اتخاذ قرار بوقف "العمليات الخارجية" (الإرهاب الثوري وخطف الطائرات)، التي كان يشرف عليها ويديرها المرحوم وديع حدّاد، والعودة إلى خيار العمل الثوري الجماهيري الذي ينظم طاقات الشعب ولا يَقْبَل النيابة عنه في العمل الوطني بواسطة نخبة من المحترفين في العمليات الخاصة.
والحس بالمسؤولية التاريخية، خامساً، هو ما دفَعَهُ إلى رفض التنازل عن الحلّ الشامل الذي رسَمَهُ "الميثاق الوطني" لمنظمة التحرير أو قبول الحلّ المرحلي (= دولة فلسطينية في مناطق الـ 67) الذي تبناهُ المجلس الوطني الفلسطيني في عام 1974 وحسبانه مدخلاً للتفريط في الحقوق الكاملة للشعب الفلسطيني والأمة العربية...
ويطول بنا الحديث في بيان حسّ المسؤولية لدى الدكتور حبش والوجوه المختلفة التي عبّر فيها ذلك الحسّ عن نفسه. وهي جميعُها تقول شيئاً واحداً: بمقدار ما كان حبش متمسّكاً بالثوابت، لا يساوم عليها أو يتنازل، بمقدار ما كان يتمتع بالمرونة السياسية التي تسمح له بمراجعة خيارات في العمل الوطني ثَبتَ عدمُ نجاعتها أو ثبتَ قصورُها في تقدَّمِ حركةِ الثورة.

*    *    *

لم أَلْتَقِ الدكتور جورج حبش إلا في مناسباتٍ قليلةٍ جدّاً، كان آخرها في دمشق حين رغب في استشارتي بإنشاء مركز للدراسات، لكن الودّ والاحترام بيننا ظل مستمراً؛ وظل شعوري قويّاً بأنه الزعيم الفلسطيني الذي يمثل العروبة في قلب الثورة ومنظمة التحرير، والذي ظل مخلصاً للخيار القومي العربي في رؤيته إلى قضايا الصراع العربي – الصهيوني ومستقبل قضية فلسطين. ولا أضيف جديداً حين أقول إن هذه الصورة التي تكونت لديّ عنه تعرضت للاهتزاز في لحظة من التاريخ قبل أن يتبدَّد شحوبُ ملامحها فتعود إلى صفائها الأول.
حصل ذلك بعد حرب 67. كنتُ – مع جملةٍ من العروبيين من أبناء جيلي – مِنَ الذين اختلفوا مع الفقيد في شأن خياريْن أَقْدَمَ عليهما بعد النكسة بأشهر، وبَدَا لنا أَمْرُهُمَا شاذّاً عن طبيعة الرجل ووجدانه القومي العربي. أولهما قبوله بحَلّ "حركة القوميين العرب"، وثانيهما انعطافُه نحو تبنّي الأيديولوجيا الماركسية – اللينينية. وقد تلقيت هذه الأنباء من خلال مجلة "الحرية" وأنا في سجن الفضيليّة في بغداد. بَدَا لي حلّ "حركة القوميين العرب"، في حينِهِ، نكسةً جديدةً للعمل القوميّ، خاصة وأنها كانت حركة شعبية، بل الحركة القومية الوحيدة التي لم تكن في السلطة وإن كانت قريبة جدّاً من عبد الناصر، بل إلى حدّ التماهي مع مشروعه القومي. ثم لأنها نجحت في إِحداث اختراقٍ أفقي فعَّال لقسم كبير من الأقطار العربية في المشرق والخليج العربيين. وقد زاد من الحسرة على حلّها أن فروعها في فلسطين ولبنان والأردن والبحرين والكويت واليمن والعراق تحوَّلت إلى تنظيمات وطنية غير قومية، وأكثرها إلى تنظيمات يسارية ماركسية. أما انعطاف جورج حبش و"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" نحو الماركسية – وخاصة بعد انشقاق "الجبهة الديمقراطية" عنها في 1969 – فَبَدَا لي حينذاك متاهةً فكرية وسياسية كان جورج بالذات في غنىً عنها. وهو ما وَلَّدَ لي شخصيّاً، ولقوميين آخرين غيري، شعوراً بالإحباط من هذا المسار الجديد.
ولم يكن الشعور بالإحباط بسبب موقف رفضٍ فكريّ وسلبيّ كامل من الماركسية، فلقد انفتح القوميون على الكثير من التراث الاشتراكي في تصوّرهم للمسألتين الاقتصادية والاجتماعية، وإنما كان بسبب الاعتقاد بأن ذلك الانعطاف سيَحْرِف اتجاه القضية من التحرر الوطني والقومي إلى سيناريوهات أممية يَنُوء بحمْلها الواقع العربي ويَطرح على العمل السياسي جدولَ أعمالٍ من خارج نطاق ذلك الواقع.
لكن جورج حبش، القوميّ الأصيل، لم يَنْسَقْ انسياقاً كاملاً وراء اليوتوبيا اليسارية، إذ سرعان ما عاد إلى موقعه القومي: صوتاً عروبيّاً مجلجلاً وبوصلة قومية للنضال الفلسطيني. وهو دورٌ تضاعفَت قيمتُه في الساحة الفلسطينية بعد رحيل عبد الناصر وبعد طغيان نزعةٍ وطنية فلسطينية ضيقة هي نفسها التي ستأخذ منظمة التحرير إلى نفق "اتفاق أوسلو".

في الحديث عن جورج حبش، لا يملك المرءُ إلا أن يقف أمام عطائه موقفَ تقديرٍ واعتراف، وأمام ذكراه موقف إكبارٍ وإجلال.


*مدير عام مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق