جورج حبش : مرآة المسؤولية والفضيلة
د. فيصل دراج
الدكتور جورج حبش امتداد لجيل مجيد من المثقفين الفلسطينيين وتتويج نوعي له في آن واحد : امتداد لروحي الخالدي , الوطني الديمقراطي الذي أدرك , مبكراً, " حداثة" الحركة الصهيونية وتطلّع إلى الرد عليها بوسائل حديثة , وخليل السكاكيني, المربي النقدي والعروبي الحاسم , ونجيب نصّار, الصحفي المتمسك بالأرض والمدافع عن الهوية الوطنية ...والراحل الكبير تتويج لهذا كلّه, ربط بين " الحداثة" الفكرية وتشكيل الحزب السياسي, وأكّد عروبة الالتزام شرطاً للعمل الوطني, ولمس في الكفاح المسلح عنصراً يحتاجه المقهورون بلا مساومة..جسّد في هذا كله معنى المثقف الثوري, الذي ينقد الواقع ويوقظ " اللاجئين " ويقترح أفقاً تحررياً جديداً , ويكافح كي يجعل من الأفق حقيقة ملموسة , ولو بقدر .
والواضح في هذا رؤية العلاقة بين الهدف الوطني والوعي المعرفي الذي يقوده, أو إدراك العلاقة بين المعرفة والسياسة , ذلك أن القول كهدف يقضي بمعرفة السبل الحقيقية التي تقود إليه . ومع أن في هذا ما يستدعي الشعار الشهير" لا ثورة من دون نظرية ثورية " , فإن الأمر لم يكن كذلك تماماً عند جورج حبش , لأنه كان يسعى دائماً إلى تصحيح " النظرية " اعتماداً على معطيات الممارسة , ويعمل على إقامة علاقة متفاعلة بين النظرية والممارسة ,إذ الأولى تحتاج إلى ما يصلح وجوه السلب فيها, وإذ الثانية لوحدها عشوائية عمياء , تقول بشيء وتنتهي إلى غيره .
ولعل إبصار الدور الذي تلعبه الثقافة في حقل العمل السياسي , هو ما جعل د. حبش يحتفي بالثقافة والمثقفين, ويحاور الطرفين معاً بحثاً عن دور فاعل للثقافة . لم يكن موقفه شكلانياً, أقرب إلى "الروتين" والمجاملات , بل كان حقيقة راسخة عبّر عنها بسلوك صادق ميّزه عن غيره من العاملين في " المقاومة الفلسطينية " وأستطيع أن أذكر , كما غيري, حواره الهادئ الدوري الراحل سعد الله ونوس , حيث كان يسأل ويكثر من الأسئلة , ويكتفي بملاحظات قصيرة وصغيرة , لأنه كان يعتقد أن للمسرحي السوري دوراً في إنارة وتصويب الممارسات الفلسطينية.ولم يكن الأمر مختلفاً في حواره المتجدد مع الراحل عبد الرحمن منيف , الذي كان يتطرّق إلى وجوه مختلفة من واقع " المقاومة " . وكذلك الحال مع مثقفين آخرين , كان يبحث عنهم أو يسعون إليه .
لا تأتي أهمية اللقاء مع مثقفين معروفين من الفعل ذاته, بل من الدلالات الكثير المحيطة به : هناك أولاً ذلك التواضع الصادق, الذي جعل " الحكيم " يزور ونوس أيام مرضه, ويطلب مقابلة هذا المثقف أو ذاك , بعيداً عن أنماط من " القادة " يحوّلون "الاهتمام بالثقافة" إلى مناسبة صحفية أو إلى فولكلور يثير السخرية . وهناك ثانياً الاعتراف الصامت بأن " المسؤول السياسي" لا يعرف كل شيء, وأنّ عليه أن يعرف , أن يلتمس هذه المعرفة لدى أهلها, وأن عليه أن يعرف قبل التماسها, اهتمامات المثقفين وشواغلهم. وهناك ثالثاً ذلك الأمر المضمر القائم على الاعتراف المتبادل بين طرفين متمايزين, لكل منهما حقله وعمله واختصاصه ومنظوره, الذي لا يختزل إلى غيره . ولعل هذا الاعتراف المتبادل بين المثقف والسياسي هو ما كان يجعل حوار د. جورج مع غيره مثمراً , فلا حوار بلا اعتراف ولا معرفة موضوعية إن لم تكن محصلة لأفكار الطرفين المتحاورين .
عرفت " المقاومة الفلسطينية " خلال فترة طويلة من حياتها , تلك الجملة الجاهزة القائلة بـ:علاقة المثقف بالسياسي أو بالسياسة . وكان المقصود بذلك ,غالباً, ضرورة "انضمام" المثقف إلى هذا التنظيم أو ذاك , كما لو كانت قيمة المثقف من " تحزّبه الشكلاني " , أو ضرورة " الوقوف" مع تنظيم ضد آخر , وذلك في صيغة تخلط بين " التحزّب " والعشائرية. لم يكن جورج حبش , الطبيب الذي درس في الجامعة الأمريكية , شغوفاً بالعشائرية والتحزّب الشكلاني , إنما كان شغوفاً بالحقيقة الفاعلة , حيث الأفكار المتعددة تبرهن أن الحقيقة نسبية , وأن الحقيقة النسبية , تختبر الواقع ويختبرها الواقع, ولا تصل إلى صيغة نهائية منجزة .
ولعل الربط بين الفكر والواقع هو الذي كان يدفع بجورج حبش , حتى أواخر أيامه إلى تقص الوقائع العملية ومحاولة تقويمها ونقدها وتطويرها. كما أن هذا الربط في أساس إيمانه بـ" العمل الثقافي الجماعي " الذي يوحّد بين المعرفة المتجددة وقضايا النضال الفلسطيني والعربي .
على الرغم من حياة حافلة مديدة , توزّعت على السياسية والتنظيم وتجديد الحزب والمعارضة والقبول والرفض , فإن في مسار حبش ما يردّ هذا إلى عالم القيم : السياسية قيمة ينبغي احترامها وممارستها بلا مراوغة , والثقافة قيمة إن استعملت أو بقيت قارة في بطون الكتب , والحزب قيمة لا يساوي " مسؤوله العام" بل مجموع أعضائه , والمثقف قيمة إنْ قبلت أفكاره أو رفضت , والزمن قيمة ينبغي استعمالها بشكل نظيف وشريف . والاعتراف بقيمة الزمن حرّضت " الحكيم " العجوز على الحلم بمركز أبحاث فلسطيني - عربي , أثمر في حياة الحكيم أو أثمر بعد رحيله . على الإنسان أن يتصرّف حراً بحياته ولا يدع حياته , تلك المتقلبة الماكرة , أن تتصرّف به . كان هذا شعار الدكتور جورج حبش , الذي رفض ضياع فلسطين حين كان طالباً , وتفرّغ للدفاع عن الوطن بعد إنجاز دراسته , واستمر في التزامه " الأبدي " إلى اللحظة الأخيرة .
لا راحة ولا ما يحيل إلى الصمت والتقاعد, ذلك أن " اللاجئ الفلسطيني " , الذي يهجس بالراحة , غير جدير بالراحة ولا بالانتساب إلى فلسطين .
صفتان لا ينساهما الذين تعرّفوا على د. حبش : التواضع الجميل الصادر عن روح كريمة وتربية نبيلة . هذا التواضع الذي يدفع العجوز المبتسم إلى استقبال زوّاره وتوديعهم باحترام كبير , وإلى الاستماع إلى كلامهم دون مقاطعة أو نصائح مفتعلة . رجل متواضع يبعث الحياة " بيده الخاملة " ويضع زائره في مناخ أليف, بعيداً عن التراتيبية وعن كل روح مشغولة بالإدّعاء وبالكلمات الكبيرة التي لا تقول شيئاً مفيداً. والصفة الثانية هي : قوة الأمل , فلا أفق لمقهور إن فقد أمله , وبعد كل أمل خائب أمل يعد بأيام مزهرة , وبعد كل "خروج" فسحة من الضوء تعلّم اللاجئ إمكانية السير بشكل جديد .
قائد أم إنسان ؟ إذا كانت النفوس الفقيرة تعتقد أن "القائد الكبير " قائد داخل العمل وخارجه .
فقد آثر جورج حبش أن يكون الإنسان الكبير الذي يمارس إنسانيته داخل العمل وخارجه قائد وإنسان في آن بل أنه قائد حقيقي لأنه يرسل الإنسان الذي فيه طليقاً , يضحك ويحاور ويتساءل ويحرّك " يداً خاملة" ويظل مبتسماً . والإنسان الذي يصير قائداً يعتكز على قدمه, والقائد الذي يسمو بالإنسان الذي فيه يمارس القيم النبيلة ويدعو إليها .
كان حبش تعبيراً عن عالم القيم , تعبيراً مخلصاً جمع بين الصدق والثقافة والدأب النزيه الذي يميّز قلة من البشر .
جورج حبش وجه من وجوه فلسطين , كما ينبغي أن تكون وكما تحب أن تكون, جمع بين القيادة والمبادرة وبين المحبة والفضيلة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق