السبت، 21 يناير 2012

شهادة د. كلوفيس مقصود : جورج حبش عميد المقاومين

جورج حبش عميد المقاومين
- د. كلوفيس مقصود *-

جورج حبش عامل مكون لديمومة الوعي القومي. في اعقاب الغزو الصهيوني اعلن جورج حبش مع فئة من رفاقه ان المشروع الصهيوني لا يجابهه إلا مشروع قومي عربي. هذا الثابت في الموقف والتحليل لا يزال هو التوصيف الأدق لمعادلة الصراع العربي الصهيوني. الا ان هذه الثنائية ودوافع الغرب (اجمالا) إلى منح رخصة للمشروع الصهيوني الحقت غبناً موجعا للامة العربية وكانت فلسطين طليعة ضحاياها. جورج حبش اعتبر ان هذا الغبن شمل ايضا المبررات التي جعلت الغرب يتجاهل حقوق العرب عامة والشعب الفلسطيني خاصة، وكأن الغرب اعتبر ان دعم المشروع الصهيوني يعفيه من المحاسبة على اهماله المعيب في التعامل مع اللاسامية ومع تداعيات المحرقة، من خلال اغلاق هجرة الكثيرين من اليهود الاوروبيين الى الولايات المتحدة تعبيرا عن سياسات عنصرية كانت تمارس في الثلاثينات مما حال دون الهجرة إلا في حدود بمنتهى الضيق.

اعتبر جورج حبش ان صيغة الغفران المتبادلبين الغرب والصهيونية منع، في معظم الاحيان – ولا يزال – اي استعداد جدي للاستماع الى وجهة النظر العربية، والفلسطينية على وجه الخصوص، وبالتالي عدم التجاوب او حتى التعاطف معها. كانت شراسة الحرب التي شنتها الصهيونية على الشعب الفلسطيني، بعد قرار التقسيم وما نتج عنه من تمدد استيطاني – مثلا مجزرة دير ياسين – مدعوما باستمرار تأييد الغرب له، مدخلا لضرورة تعبئة فورية اتسم فيها فكر المقاومة بنزعة الانتقام مما فسر شعار "الثأر" في مرحلة النشوء لحركة القوميين العرب والتي انضوى في اطارها العديد من الشباب والمثقفين المناضلين من مختلف اقطار الامة العربية. عندما حصلت هزيمة 1948 نتيجة سوء ادارة الصراع وما آلت اليه من ترسيخ للقطرية بمعنى تفكيك قومية الصراع برزت احزاب ومنظمات بتوجيهات مشابهة لحركة القوميين العرب الى ان جاءت الحقبة الناصرية التي بدت واعدة مما أدى الى قيام الجمهورية العربية المتحدة 
كانت فترة الخمسينات والستينات مرحلة مخاض فكري وعقائدي فلعب جورج حبش دورا طليعيا بارزا في بلورة ثقافة المقاومة التي تخطت اللحظة الانتقامية ادراكا منه ان الثأر رد فعل تحريضي على المقاومة وليس فكراً يوجهها. ادركت الحركة التي قادها جورج حبش ان التعبئة اذا اقتصرت على الانتقام قد يكون من شأنها هدر لطاقات صناعة مستقبلها ونجاعتها – وجاذبيتهاكما ساهمت في بلورة ثقافة تقدمية للمقاومة 
.
عندما خرجت الأمة العربية من اوضاع الانتداب والاستعمار قامت مصر الناصرية، التي ساهمت في تمكين القوى القومية بشتى مكوناتها كما انها  من خلال تبني سياسة عدم الانحياز وتحدي نظام القطبية الثنائية ساعدت العديد من الأوطان العربية على الخروج من قبضة الهيمنة واضفت مفهوما للاستقلال الوطني باعتباره استقلالا للارادة الوطنية وعدم الاكتفاء بمظاهر السيادة وشكلياته.وعندما ترافقت سياسات الحياد الايجابي – اللاانحياز – مع قيام الجمهورية العربية المتحدة كان هذا التطور الحافز الرئيسي لمبادرة جورج حبش الى مراجعة فكرية جذرية للعمل القومي تميزت بعطاء سخي أثرى ادبيات المقاومة وجعلها عاملا سياسيا وعقائديا مع اولوية تأكيد الثوابت والتي يمكن تلخيصها ببدايات عطاءاته النضالية – مجابهة الصهيونية بالمشروع القومي العربي – لكن مع ضرورة دراسة المستجدات وتمكين المقاومة من استيعاب ما تمليه المتغيرات وبالتالي الحاجة للتكيف معها 

.لقد جعل للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين حضوراً رئيسياً في تركيبة منظمة التحرير الفلسطينية وادرك جورج حبش خاصة بعد هزيمة 1967 ان الحركة القومية بمختلف مكوناتها اصيبت بعطب كما ان بروز "فتح" كتيار اول للمقاومة دفعه ان يجعل الجبهة الشعبية رافدا اساسيا للتأكيد على قومية منظمة  التحرير، وبقي اليسار الجديد الذي اصبح جورج حبش من كبار منظريه يرفد المقاومة بدراسات وتحليلات مما اوجد علاقة جدلية بين "الجبهة الشعبية" و"فتح" أمنت، وان بتقطع، استقواء متبادلاً جعل اللحمة بينهما اداة ضبط للفلتان الذي كان سائدا، مما ساعد على اعادة القضية الفلسطينية احدى قضايا العصر وقضية الوجدان العالمي
 اجل، جعل جورج حبش من الجبهة الشعبية تمكينا للفكر التقدمي وادراكا بأن المقاومة بحاجة ان يكون لها نهج وفلسفة واضحة وان تكون مؤهلة ان تستمد من التجارب التحررية المماثلة في العالم اثراء لدورها وعملها. هذا الارث النضالي والفكري الفذ يفسر ان جورج حبش كان ممن صنعوا فترة في تاريخ الامة العربية المعاصرة. إلا ان التاريخ العربي المعاصر وخاصة  في المرحلة الراهنة على الاقل ناقض ما اراده جورج حبش وما التزم به وعمل بكبرياء ملهم وتواضع فريد في الوقت نفسه من اجل تحقيقه.
الاحباط السائد الذي استشعر به وعانى منه، كما الجماهير العربية يبقى  ان ما زرعه جورج حبش في نفوسنا وضميرنا جميعا  هي بذور لاستمرار براءة التفاؤل واستئناف المسيرة رغم الغبن الذي نلحقه بانفسنا من خلال الانقسامات في صفوفنا وانبهارنا بالغير
حبذا لو اعرف الآن اذا كان هذا المناضل الكبير شاهد في آخر ساعات حياته جماهير غزة تؤكد ان الشعب العربي مثله لا يعترف بالحدود فإذا عرف يكون هذا بحد ذاته تعزية لنا جميعا. وإن لم يعرف علينا ان نعوض له على الأقل باستعادة الوحدة الوطنية في فلسطين والاستمرار في العمل للوحدة العربية التي نذر جورج حياته من اجلها.
وموت جورج حبش يضع على عاتق المناضلين في الحركة الشعبية , متابعة نضال هذا القائد العظيم حتى تحقيق النصر .
*:
كلوفيس مقصود ، محامي وصحفي ودبلوماسي لبناني ، كتب العديد من المقالات والكتب عدة حول الشرق الأوسط وبلدان جنوب الكرة الأرضية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق