الأربعاء، 30 نوفمبر 2011

كلمة الدكتور جورج حبش في الذكرى السنوية الأولى للانتفاضة المجيدة، والذكرى الحادية والعشرين لانطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين



الرفيق حبش: سنبقى نعمل لاستمرار الانتفاضة
لتصعيد الانتفاضة.. لتجذير الانتفاضة.. لامتداد الانتفاضة
في المهرجان الخطابي الحاشد، الذي أقيم بمناسبة الذكرى السنوية الأولى للانتفاضة المجيدة، والذكرى الحادية والعشرين لانطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ألقى الدكتور جورج حبش، الأمين العام للجبهة، الكلمة التالية باسم منظمة التحرير الفلسطينية، والقيادة الوطنية الموحدة، والجبهة الشعبية:
أيتها الأخوات.. أيها الأخوة
أيتها الرفيقات... أيها الرفاق
رفاقي وأخوتي الضيوف...
نلتقي اليوم بمناسبة مرور عام كامل على انتفاضة شعبنا المجيدة، وبمناسبة مرور إحدى وعشرين عاماً على تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. كما نلتقي أيضاً احتفاءً بإعلان الاستقلال الوطني الفلسطيني... بإعلان الدولة الفلسطينية المستقلة.
وبما أننا في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، نشكل فصيلاً أساسياً في القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة. أعلن لجماهيرنا العربية، أن الجبهة ستبقى تعمل لاستمرار الانتفاضة، لتجذير الانتفاضة. لتصعيد الانتفاضة، لامتداد الانتفاضة حتى تأتي بكافة نتائجها الفلسطينية والعربية والدولية في الخارج. وتحقق شعارها السياسي الذي رفعته وسالت الدماء من أجله، شعار الحرية والاستقلال.
وبصفتي أميناً عاماً للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. فإن من واجبي أيضاً، أن أعلن للجماهير الفلسطينية في كل مكان، ولكل الجماهير العربية، باسم الجبهة الشعبية، مكتبها السياسي ولجنتها المركزية وكوادرها ومقاتليها وقواعدها. إن الجبهة ستبقى مخلصة ووفية للرؤيا السياسية التي طرحتها وللخط السياسي الذي تمثله وللمفاصل الرئيسية في هذه الرؤيا، وعلى رأسها فهم الجبهة الشعبية لحقيقة الكيان الصهيوني باعتباره وبمظهره الرئيسي، ظاهرة استعمارية، سنبقى نقاتلها عاماً بعد عام... عقداً بعد عقد... جيلاً بعد جيل حتى نطهر الأرض الفلسطينية، وكامل الأرض العربية من رجس الاحتلال. وبما أننا نلتقي أيضاً احتفاءً بإعلان الدولة الفلسطينية المستقلة، وإدراكاً من الجبهة للفارق بين إعلان الدولة، وبين إقامة هذه الدولة على الأرض، فإنني أعلن باسم الجبهة الشعبية مكتبها السياسي، لجنتها المركزية، كوادرها مقاتليها وأعضائها إننا سنمد من أجسادنا جسراً لسد الفجوة ما بين الحلم- إعلان الدولة-. وما بين الحقيقة الملموسة... أن تقوم هذه الدولة على الأرض.
أيتها الرفيقات.. أيها الرفاق
إن انتفاضة جماهيرنا في فلسطين، تحمل مضامين كبيرة ومعاني كثيرة... أنا اعلم أنكم جئتم لتسمعوا عما تم في المجلس الوطني الفلسطيني، وكيف تفهم الجبهة الشعبية ميثاق الاستقلال. والبيان السياسي الذي صدر، وما عانيناه من سياسة التنازلات، ولماذا رفضنا قرار /242/... إنني اعرف ذلك جيداً... ولكن في هذه المناسبة بشكل خاص، اسمحوا لي أن أتحدث بشكل مكثف ومختصر، حول المضامين والمعاني الكبيرة التي تمثلها انتفاضة أهلنا في الأرض المحتلة.
لقد ذكرت اللجنة المركزية للجبهة الشعبية، في آخر دورة لها قبل المجلس الوطني، أن الانتفاضة الشعبية تمثل مرحلة جديدة في النضال الوطني الفلسطيني، من الممكن أن تؤسس لمرحلة جديدة في النضال العربي برمته.
سمات الانتفاضة... المرحلة الجديدة:
ما الذي اقصده بهذا الكلام؟؟! ما هي هذه المرحلة بشكل ملموس؟؟ وحتى نفهمها وتفهمها جماهيرنا... ونناضل جميعاً من أجلها... نقول أننا بدأنا نعيش مرحلة جديدة لها سماتها المحددة، حيث وللمرة الأولى ينتقل مركز الثقل في مواجهة المشروع الصهيوني إلى جماهيرنا في الداخل... قد تقولون أن هذا الكلام ليس بجديد. وهذا صحيح من الزاوية النظرية، وهو ما سجلناه على الورق، وربما شاركنا في ذلك فصائل أخرى، حيث اعتبرنا أن جماهيرنا في الداخل هي الركيزة الأولى في المواجهة... ولكن ما الذي كان حاصلاً على الأرض، أيام ظاهرة الكفاح المسلح في الأردن ثم في لبنان؟ ما كان حاصلاً على الأرض، إن القاعدة الأساسية في المواجهة كانت تتم من قبل الخارج، من قبل التجمع الفلسطيني المتواجد خارج الأرض الفلسطينية.
نحن الآن نعيش، وللمرة الأولى منذ عام 1948 - ولا حاجة لأن استعرض معكم مسيرة النضال الوطني الفلسطيني منذ الخمسينات وحتى الآن -، ولكن أكرر أنه وللمرة الأولى جماهيرنا في الأرض المحتلة، والتي تشكل حوالي 40% من جماهير شعبنا الفلسطيني، هي التي تتحدى وتحتل مكان الصدارة في مواجهة مشروع الكيان الصهيوني... هذه سمة أولى جديدة بشكل ملموس.
السمة الثانية، لقد كان الصراع الفلسطيني ضد المشروع الصهيوني، جزءاً لا يتجزأ من الصراع العربي- الصهيوني، وهذه القاعدة يجب أن نحافظ عليها، وهذا ما حصل في الخمسينات أثناء حرب السويس. وفي الستينات عندما وقعت هزيمة حزيران وفي السبعينات خلال حرب تشرين... أي أن المظهر الرئيسي للصراع، صراع عربي- صهيوني يحتل فيه الصراع الفلسطيني- الصهيوني هامشاً معيناً.
الآن، وللمرة الأولى منذ أربعين عاماً على هذا الصراع، يظهر الوجه الفلسطيني ليقول، أنا محور وجوهر هذا الصراع وسأبقى كذلك، دون أن يعني ذلك المساس بأي شكل من الأشكال بفهمنا لقومية المعركة، وإنما أصبحت قومية المعركة تدور الآن حول المحور الأساسي... محور الصراع الفلسطيني- الصهيوني.
السمة الثالثة لهذه المرحلة والتي ظهرت بشكل أوضح من أي فترة مضت، هي دور الجماهير في صنع التاريخ، إمكانياتها، قدراتها إبداعاتها، عبقريتها... نحن نعيش الآن فترة من تلك الفترات التاريخية التي تجسد بشكل واضح وملموس ما يعنيه ذلك.
لقد وقفت الجماهير الفلسطينية بعد عام 1982 بشكل خاص وراجعت مسيرة النضال الطويلة... راجعت نتائج الحروب العربية ضد إسرائيل، راجعت نتائج حرب تشرين 1973 وانحراف السادات في طريق كامب ديفيد، وراجعت أيضاً المأزق الذي بدأت تعيشه البندقية الفلسطينية في الساحة اللبنانية. وتساءلت... ماذا عن كل التضحيات؟... ماذا عن الأمل؟... ماذا عن الحقوق الوطنية المشروعة؟... وبالتالي تسلحت بالحجر، بالمولوتوف، وبالسكاكين ضد المحتل، ولتثبت أن حقها قائم وباقي، وستدافع عنه بكل الوسائل الممكنة حتى يتحقق النصر.
أما السمة الرابعة للمرحلة الفلسطينية الجديدة، فقد ظهرت في الأشهر الأولى للانتفاضة، حيث تبلورت مجموعة القيم الأخلاقية، التي يجري تجسيدها من قبل جماهيرنا في الأرض المحتلة الآن، والتي تزيدنا يوماً بعد يوم، ثقة بقدرتنا على تحقيق الانتصار، تلك القيم المتمثلة بالاعتماد على النفس والتضامن والتكافل واستسخاف نمط الحياة الاستهلاكي، التركيز على الاقتصاد البيتي، مقاطعة البضائع الإسرائيلية.
سمات وصفات وقيم أخلاقية جديدة تبلورت خلال عام الانتفاضة الأول، لتشكل في مجموعها مرحلة جديدة من مراحل النضال الوطني الفلسطيني، ليس هذا وحسب، بل إنها تمهد لمرحلة جديدة في النضال الوطني العربي... وهذه هي الانتفاضة. ولاً هذه الحالة فقط، يمكن أن نعرف ماذا تعنيه لنا تاريخياً، ونعرف كيف نستثمرها فلسطينياً وعربياً.
عربياً: كلكم تعرفون أننا ومنذ عام 1978، بدأنا نعيش مرحلة "كامب ديفيد والصراع ضد كامب ديفيد"، وهي تسمية في غاية الدقة، أطلقتها الكثير من القوى والأحزاب التقدمية والشيوعية على هذه المرحلة. فماذا تعني اتفاقية كامب ديفيد؟؟... اتفاقية كامب ديفيد تعني استسلام السادات... استسلام النظام المصري أمام الهجمة الصهيونية، وعدم الاستمرار في مقاومتها... ليس هذا فقط، وإنما التمهيد أيضاً لإنشاء حلف ثلاثي إمبريالي صهيوني رجعي عربي، يقف في وجه حركة الجماهير العربية التي تريد استئصال الغزوة الصهيونية.
هذه هي مرحلة كامب ديفيد والصراع ضد كامب ديفيد... الآن ما الذي حصل خلال السنوات العشر المنصرمة؟؟ كافة الصيغ التي وضعت من قبل الجامعة العربية ومن الأنظمة الوطنية، سقطت وانهارت... قرارات قمة بغداد بعزل النظام المصري تبخرت... الميثاق السوري العراقي، أين أصبح؟؟ تبخر أيضاً... جبهة الصمود والتصدي أين هي الآن؟؟... كافة الخطوط التكتيكية التي وضعت لمواجهة كامب ديفيد انتهت. وها هو نظام كامب ديفيد، الذي يرتفع العلم الإسرائيلي فوق سماء عاصمته القاهرة، سيحضر أول اجتماع للجمعية العربية، من هنا نستطيع أن نقول أننا الآن نلحظ الانهيار الكامل للنظام العربي الرسمي، ولم يعد الموضوع موضوع السندات، بل سيكون هناك سادات ثان وثالث.. وتاسع وعاشر.
والآن، تأتي جماهيرنا في الأرض المحتلة لتقدم المثل والنموذج ليس لجماهير مصر وحسب، بل لكل الجماهير العربية وفصائل حركة التحرر الوطني العربية... نموذج يقول: إن الجماهير تستطيع أن تدافع عن حقوقهما وأمانيها مهما كانت الصعوبات، ولا يمكن لها أن ترفع راية الاستسلام... ولهذا قلنا أن الانتفاضة تمثل مرحلة جديدة في النضال الوطني الفلسطيني، وتمهد لمرحلة جديدة في النضال الوطني التحرري العربي.
أيتها الرفيقات.. أيها الرفاق
إن ما سبق لا يعفينا من الحديث المحدد حول الموضوعات السياسية التي تعيشها الانتفاضة ومنظمة التحرير الفلسطينية في هذه اللحظة بالذات، وهي موضوعات كانت موضع الحوار والبحث قبيل المجلس الوطني وأثنائه وكان من أولى ثمارها "وثيقة الاستقلال". فما هي هذه الوثيقة؟... وهنا أرى أن من واجب كل فلسطيني أن يقرأها ويدرسهـا ويمحصها. ويسأل عن معنى كل عبارة فيها.
"وثيقة الاستقلال" أعلنت قيام دولة فلسطينية على الأرض الفلسطينية، استناداً إلى الحق الطبيعي والتاريخي للشعب الفلسطيني في أرضه فلسطين، واستناداً إلى كافة مقررات الشرعية الدولية لا يجوز وبأي حال من الأحوال أن نفهم الأمور ونترجمها على طريقة "ولا تقربوا الصلاة"... البعض فهم أن وثيقة الاستقلال تعني الاعتراف النهائي والكامل بقرار /181/، والاعتراف الكامل والنهائي بتقسيم فلسطين.. من هنا أرجوكم أن تعودوا وتقرؤوا هذه الوثيقة، حتى لا نسمح لأي قيادة فلسطينية أن تفسر هذه القرارات كما تريد.. إننا مستعدون أن نحتكم إلى النصوص والى المعارك السياسية التي خيضت، ليس من قبل الجبهة الشعبية وحدها، بل ومن قبل الجبهة الديمقراطية وجبهة النضال وجبهة التحرير أيضاً... إدراكاً منا لأهمية النصوص والخطورة، والتكتيك الواجب إتباعه في هذه الفترة الدقيقة من عمر الثورة الفلسطينية.
إعلان الدولة الفلسطينية قرار صائب، ويجب أن يكون لدى كل مواطن فلسطيني قناعة عميقة به... وهنا أرجو من رفاقي في الجبهة الشعبية أينما كانوا، أن يدخلوا كل بيت فلسطيني لهذه الغاية، وحتى تتوفر القناعة الجماهيرية بصحة اتخاذ قرار إعلان الاستقلال.. ما هو الشعار الذي رفعه شعبنا في انتفاضته داخل الأرض المحتلة؟؟... إنه شعار "الحرية والاستقلال".
هذا من جهة، ومن جهة أخرى أعلن النظام الأردني في تموز الماضي وبعد بضعة أشهر من الانتفاضة، فك الارتباط ما بين المملكة الأردنية الهاشمية والأرض الفلسطينية، - ولا أريد هنا الخوض في أسباب ذلك- وهذا الإجراء يطرح سؤالاً كبيراً... إذن لمن هذه الأرض ومن هو المسؤول عنها؟؟ وكان يجب على منظمة التحرير الفلسطينية أن تعطي جواباً على هذا السؤال.
شعبنا يرفع شعار "الحرية والاستقلال"، القيادة الوطنية الموحدة والتي تحظى بتأييد الجميع ترفع شعار "الحرية والاستقلال"... وحتى نكون واقعيين وبعيدين عن المزايدات، كلنا يعرف أن الانتفاضة الآن قائمة في الضفة الفلسطينية وقطاع غزة – أي المناطق المحتلة منذ عام 1967- ونحن لا نستطيع أن نحمل جماهيرنا الفلسطينية فيها، وفي هذه المرحلة بالذات، مسؤولية تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني، فهذه مسؤولية كل الجماهير الفلسطينية.. جماهير الجليل والمثلث والنقب... جماهير الضفة والقطاع، والجماهير الفلسطينية المتواجدة في الأردن وسوريا ولبنان والشتات... ليس هذا فحسب، بل هي مسؤولية كطل الجماهير العربية.
إذن جماهيرنا في الضفة الفلسطينية وغزة تريد جلاء الاحتلال، أي جلاء الجيش الصهيوني عن الأرض التي احتلت عام 1967، والأردن قال أنا لا علاقة لي بهذه الأرض.. فما هو واجب م.ت.ف؟؟ الجواب: أن تقول هذه الأرض لي، أعلن عليها قيام الدولة الوطنية المستقلة.. لذلك نحن نؤيد هذا القرار المتمثل بوثيقة الاستقلال.
بعد ذلك، وقف المجلس الوطني الفلسطيني أمام موضوع "تشكيل الحكومة الفلسطينية".... وأريد أن أقول لكم إن إقرار الدولة من حيث المبدأ، يتطلب إقرار قيام حكومة فلسطينية طبعاً على ضوء واقع الساحة الفلسطينية، وعلى ضوء تشابك هذا الواقع مع الساحة العربية وتأثيرات القوى الرجعية العربية فيها، وقفت الجبهة الشعبية لتسجل مجموعة أسئلة، وتربط موافقتها على تشكيل الحكومة بالإجابة الجماعية عليها هل صحيح أن هذه الحكومة ستتشكل من شخصيات معتدلة؟ وماذا تقصدون بهذا الموضوع، ما هي أسس تشكيل هذه الحكومة؟... ما هو برنامجها؟... من هي شخصياتها... ما هي علاقة م ت. ف؟... هل تنتهي م. ت. ف أم تصبح كماً ثانوياً في حال تشكيل الحكومة.
كان لا بد من طرح هذه الأسئلة وغيرها، وحينما أجيب على هذه الأسئلة جماعياً، وبشكل قرار يقول بأن هذه الحكومة ستتشكل من شخصيات وطنية من الداخل والخارج، وبما يجسد الوحدة الوطنية الفلسطينية... ينطلق بيانها الوزاري من وثيقة الاستقلال والبرنامج الوطني لمنظمة التحرير برنامج العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية، ومن قرارات المجالس الوطنية، أزيحت عقبة كأداء من طريق تشكيل الحكومة، وأصبح من الطبيعي أن نفكر جدياً بتشكيلها في الظرف السياسي المناسب. وبعد التأكد من تفاصيل ترجمة هذه القرارات.
بعد ذلك وقف المجلس الوطني الفلسطيني في دورته التاسعة عشر أمام قرارات دعم الانتفاضة. وهي القرارات التي نستطيع من خلالها توفير أعلى عملية دعم مادي وإعلامي وسياسي للانتفاضة، ويكفي أن أقول في هذا المجال أن القرار الأول من تلك القرارات هو دعم الانتفاضة من خلال تصعيد الكفاح المسلح من كافة الحدود العربية.
وأخيراً أتينا لموضوع "البيان السياسي"، الذي دارت حوله الخلافات. وأنا أطالب جماهير شعبنا الفلسطيني أينما كانت، أن تكون بعد عام أو عامين، حكماً على صحة أو خطأ وجهة النظر التي تبنيناها في الجبهة الشعبية والتي تتلخص في نقطتين أساسيتين:
* أولاً: رفض قراري /242/ و/338/، حتى لو أضيف لهما حق تقرير المصير، كأساس قانوني للمؤتمر الدولي.. لماذا؟.... وأتساءل لماذا نخصص قراري /242/ و/338/ في البيان السياسي دون سائر قرارات الشرعية الدولية؟؟!
أنا لا أستطيع أن أفهم تنازل القيادة الفلسطينية عن حقوق منحتها إياها الشرعية الدولية قرار /194/ ليس قرار للجبهة الشعبية أو الديمقراطية قرار /194/ هو قرار هيئة الأمم المتحدة، وكذلك قرار رقم /3236/ صحيح أنهما لا يعطيانا حقنا الطبيعي والكامل في أرضنا فلسطين، ولكن القرار/194/ يعطينا حقنا في العودة، والثاني حقنا في إقامة الدولة.. فلماذا نحصر قرارات الشرعية الدولية في قراري /242 و338/.
في الجزائر سألني بعض الصحفيين، إذا ما كنا نمثل خطاً متطرفاً؟ أجبته بالنفي، وبأننا نعرف ميزان القوى القائم الآن في الساحة العربية بشكل جيد جداً، ونعرف كيف يعكس ذلك نفسه على تكتيكاتنا الفلسطينية، واستعدادنا للتعاطي مع هذه التكتيكات... ولكن قبول غالبية المجلس الوطني بتضمين البيان السياسي لقراري /242 و33/ بالارتباط مع حق تقرير المصير، يعني تقديم شيء من التنازل والإضعاف للنضال الوطني الفلسطيني في المؤتمر الدولي، عند محاولة مناقشة كافة قرارات الشرعية الدولية، ومطالبة المجتمع الدولي بإيجاد حل للقضية الفلسطينية من كافة جوانبها، على أساس كافة تلك القرارات. أجو التنبه جيداً لهذا الموضوع والمحاكمة على أساسه فالواقع شيء.. والأمنيات شيء آخر.
هذا هو تكتيكنا، إلا أن هناك تكتيك آخر سيتبعه معسكر الأعداء ويقضي بتجريدنا من كل أسلحتنا.. فإسرائيل لازالت ترفض فكرة المؤتمر الدولي... حتى شمعون بيريز وحزب العمل يرفضون هذا المؤتمر ولا ينظرون إليه إلا كمظلة لمفاوضات مباشرة.. الآن وبعد فوز اليمين المتطرف والأحزاب الدينية في الانتخابات، يريدون تجريدنا من ملابسنا كاملة حتى ندخل المؤتمر عراة.. وهذا هو تكتيك العدو... ولهذا نرفع في الجبهة الشعبية شعار مضاد لتقديم التنازلات المجانية.. لماذا نقدم تنازلات مجانية خاصة في فترة الانتفاضة الباسلة؟؟!
إنني أحذر من الاستمرار في تلك السياسة... وكل ما أخشاه أن لا يكتفوا بما قدم فعلاً والاكتفاء به، بل أن تخرج علينا تفسيرات وأصوات تطالب بتقديم تنازلات مجانية جديدة، تمهيداً للمجلس الوطني الفلسطيني القادم.
إذن، لقد خضنا معركة /242/ بقوة، رفاقنا في الديمقراطية أيضاً خاضوا معنا معركة "عدم الموافقة على ذكر إسرائيل، وموضوعه ضمان الأمن لكل بلدان المنطقة" عند الحديث عن المؤتمر الدول... لماذا؟؟.. لماذا ونحن نعرف جميعا أن تسوية مرحلية، لا تعني التحرير من البحر إلى النهر، نقدم منذ الآن كل أوراقنا؟... قبل أيام في استوكهولم، لم يكن الحديث عن قرار /242/، بل أصبح الحديث عن "اعتراف".. كلا أيها الرفاق المجلس الوطني الفلسطيني لم يقدم أي اعتراف بالكيان الصهيوني، لذلك أطالبكم وأناشدكم بدم الشهداء الذين سقطوا، أن تقرؤوا مقررات هذا المجلس جيداً... تدرسوها وتفهموها وتسألوا عنها، وعندما يأتي إليكم جورج حبش أو نايف حواتمة أو أي من أعضاء اللجنة المركزية لفتح، استفسروا منه وناقشوه.. حتى يعلم الجميع أن شعبنا الفلسطيني حي ولا يمكن أن يسخر منه.. وأنا واثق تماماً من ذلك.
أيتها الرفيقات.. أيها الرفاق
في المؤتمر الصحفي الذي عقده الأخ ياسر عرفات، بعد جلسة الوطني قال "لقد قدمنا كل التنازلات الممكنة، والكرة الآن في ملعب الولايات المتحدة، وإذا لم تتجاوب الإدارة الأمريكية مع هذا الخط، فسأدعو المجلس الوطني وأقول له إنني فشلت، وأن خط الاعتدال قد فشل، ويجب أن تعيدوا النظر في قراراتكم على هذا الأساس"...
لا أريد أن أقول تنازلات، لأن عرفات لا يستخدم هذه العبارة ولكننا في الجبهة الشعبية نقبل بهذه النتيجة. ونقبل بالاحتكام للمجلس الوطني... عندما نريد محاكمة هذه التنازلات، لابد من النظر إلى نتائجها. والمقياس الأساسي في ذلك مفعولها لدى الإدارة الأمريكية وأوروبا. فأنا على قناعة تامة بأن الأصدقاء لن تتأثر علاقتنا بهم لو قلنا لهم "كافة قرارات الشرعية الدولية" وليس قرار /242/... وهنا أستشهد بما قاله لي الأخ ياسر عرفات بعد عودته من الصين، وحديثه للأمين العام للحزب الشيوعي عن الخيارات المطروحة أمام الشعب الفلسطيني. كان جواب قادة الصين "يا رفيق عرفات نحن معكم في أي قرارات تأخذونها".
والآن، هل تأثر الموقف الأمريكي، هل تأثر الموقف الصهيوني؟.. هل تأثر الموقف الأوروبي؟.. ما هي النتائج حتى الآن؟... الجواب الأمريكي على هذه التنازلات كان منع الأخ ياسر عرفات من دخول نيويورك... وكان الجواب الأوروبي أنها سترسل سفرائها في جنيف لحضور جلسة الأمم التي أقرت هناك... وأنا أقول علينا أن ننتبه جميعاً لهذا التكتيك، وحذاري من تقديم أي تنازلات أخرى ما بين هذا المجلس والمجلس القادم، غير التنازل الذي مثله قرار /242/... لأننا حينها سنحمل الجهة التي ستخرج عن هذه القرارات، أية مسؤولية ستترتب على موضوعة الوحدة الوطنية الفلسطينية... وعليهم أن لا يسيئوا فهم الشعور العميق بالمسؤولية، الذي تتحلى به الجبهة الشعبية، في فترة الانتفاضة الشعبية... نحن لسنا مستعدين أن نرى قضيتنا تتدحرج، ونبقى صامتين تجاه ذلك.
ما هي وثيقة استوكهولم؟؟.. من قال أن المجلس الوطني اعترف بإسرائيل؟... كلا لم يحصل ذلك أبداً... لقد خضنا معارك شرسة ضد ذلك، وكانت معنا الجبهة الديمقراطية وجبهة النضال الشعبي، وجبهة التحرير الفلسطينية، وقسم من فتح... ولم يخرج المجلس الوطني بأي اعتراف.
إحدى الدول الأوروبية، أرسلت قبل أيام عرضاً إلى الأخ ياسر عرفات، تطلب فيه الاعتراف العلني والرسمي والواضح بإسرائيل، والاعتراف بقرار /242/ وإدانة الإرهاب.. وهذه نفس الشروط الأمريكية، مقابل ماذا، مقابل فتح الحوار مع منظمة التحرير الفلسطينية إنهم يسخرون منا. والله لسنا سيئي الظن، ولكن تجارب أربعين عاماً علمتنا أن نكون حذرين، فما يجري الآن هو توزيع واضح للأدوار، فالرجعية العربية ممثلة بنظام كامب ديفيد تضغط على المنظمة لاستحصال موافقتها على قرار /242/، بعدها يأتي دور الولايات المتحدة، تضغط وتضغط لتحقيق شروطها حتى تتفاوض مع منظمة التحرير، وفي نهاية المفاوضات سيقولون للمنظمة.. والله شامير مش موافق.
نحن بصراحة متخوفون من هذا التكتيك.. أقول هذا وأنا أعلم أن الكثير من التقدميين، يشددون على أهمية المرونة والتكتيك ولكن أكرر إن لدينا تجربة طويلة، وأمامنا معسكر أعداء رهيب لديه تكتيكات معينة، يريدون خسارتنا خطوة بعد خطوة، نخسر الوحدة الوطنية، ونخسر ثقة الجماهير، نخسر علاقاتنا وتحالفاتنا... صحيح أن بعض الدول ارتاحت لما جاء في البيان السياسي للمجلس الوطني حول قرار /242/، لكن هناك آخرين لم يرتاحوا لذلك.. بالأمس القريب جاءني فريق أساسي من حركة الجماهير المصرية متمثل بالتيار الناصري قائلاًً: "إننا لم نعد قادرين على تحريك الشارع المصري لمناصرة قضيتكم بعد أن رأينا منظمة التحرير تقدم هذه التنازلات"... وأنا أقول، علينا أن نأخذ حركة الجماهير الفلسطينية حركة الجماهير العربية بعين الاعتبار عند الإقدام على أي خطوة، هناك وجهة نظر في الساحة الفلسطينية تقول: حتى تتحقق الدولة الفلسطينية التي أعلناها- على الأرض، يجب أن نركز في (90%) من نضالنا ونشاطاتنا على العمل الدبلوماسي، وعلى الاتصالات السياسية، ودون شك أن هذا العمل يتطلب تقديم تنازلات الجبهة الشعبية تطرح رؤيا مختلفة، رؤيا أخرى لتحقيق قيام الدولة.. هذه الرؤيا تتلخص في:
فلسطينياً: نطرح شعار تجذير الانتفاضة.. تصعيد الانتفاضة.. استمرار الانتفاضة.. امتداد ا لانتفاضة.. وأعني بتجذير الانتفاضة أن يصبح لها جذور عميقة في الأرض، بحيث تخبو آمال رابين وشامير في إخمادها وتصبح عملية القضاء عليها معادلة للقضاء على الشعب الفلسطيني بأسره... وإذا اثبت التاريخ عدم إمكانياته، حتى بالنسبة لأكبر قوة استعمارية في العالم... ولنا في تجربة فيتنام مثل على ذلك. تجذير الانتفاضة يعني أيضاً الوقوف أمام القيادة الموحدة.. اللجان الشعبية.. اللجان الضاربة.. لجان الإغاثة... الوقوف أمام كل عنوان من هذه العناوين، والوقوف أمام موضوعة وحدة كافة الاتحادات والنقابات والمؤسسات الوطنية... تماماً كما فعلت الأطر النسائية في الأرض المحتلة قبل أيام حين شكلت مجلساً أعلى للتنسيق فيما بينها.. إذ لم يعد من المقبول وللأسف الشديد، أن يكون هناك أربع اتحادات عمالية وأربع اتحادات طلابية وأربع اتحادات للجان العمل التطوعي وأربع اتحادات نسائية.
ما نقصده بتجذير الانتفاضة، إيجاد القاعدة التنظيمية الصلبة الموحدة، التي تضمن استمرار الانتفاضة.. كل الاتحادات يجب أن تبدأ فوراً بتشكيل اللجان التنسيقية تمهيداً لتوحيدها في بوتقة واحدة.. وعلى القيادة الوطنية الموحدة أن تقف أمام تجربتها، بعد مرور عام كامل على قيامها.
إننا في الجبهة الشعبية حريصون على الانتفاضة وانتصارها.. وهنا يجب أن نوجه الدعوة باستمرار لـ"حماس"- سواءً تجاوبت معها أم لا-، لتعمل في إطار القيادة الوطنية الموحدة، وإذا كان ذلك غير ممكن، فعلى الأقل قيام مستوى معين من التنسيق بينهما، يضمن الاتفاق حول البرامج النضالية اليومية التي تطرح للجماهير.
كذلك يجب أيضاً وباستمرار، دعوة التنظيمات التي لازالت خارج إطار م. ت. ف للانخراط في صفوف المنظمة، سواء تجاوبت معها أم لا، وعلى المنظمة أن تستمر في هذه المحاولات بجدية، وتبذل كل جهد مستطاع لتتوحد كل الجهود الفلسطينية في مقاومة الاحتلال... إذ لا يستطيع الإنسان أن يتفهم في هذا العصر، عصر الانتفاضة، أن تأخذ الصراعات والنزاعات هذا المستوى وهذه الوتيرة، التي قد تكون مفهومة في ظروف أخرى... وعلينا كما ذكر الرفيق جورج حاوي قبل قليل، أن لا ننسى مخطط العدو، والذي يستهدفنا جميعاً، من الممكن أن نحمي أنفسنا من الكثير من الأخطاء السياسية فنحن على سبيل المثال، اختلفنا حول قضية مفصلية في "البيان السياسي"، ثم هتفنا بعد ذلك، ثورة ثورة حتى النصر وحدة وحدة حتى النصر، وقد يقال لنا كيف يكون ذلك؟ وجوابنا ينطلق من سببين رئيسيين: الأول أن هناك انتفاضة في الأرض المحتلة. والثاني أن الأحداث ستكشف بعد عام أو عامين أن سياسة التنازلات لن تجدي فنعود ونتوحد على خط سياسي حازم.. وهنا استحضر كلمة لرجل ذو تجربة طويلة وعظيمة، وهو الرفيق هوشي منه يقول فيها ما معناه: "كلما ازددنا مرونة، كلما ازدادت القنابل على هانوي"... فالانتفاضة تفرض علينا وتيرة معينة للتعبير عن الخلافات في وجهات النظر، ويجب على أذرع الانتفاضة ومنظمة التحرير الفلسطينية، أن تبقى مفتوحة لكل فصيل يريد أن يقاتل من خلالها، وداخل أطرها.
على صعيد فلسطيني أيضاً، أريد التأكيد على مهمة أساسية سيكون لها دور كبير في تعديل ميزان القوى المحلى الفلسطيني، وهي مهمة القيام بعملية إصلاح حقيقية في منظمة التحرير الفلسطينية، وهذا موضوع لا يمكن الاستهانة به... صحيح أن الشعب بأسره مرتاح لما يجري في الداخل إلا أن نسبة ضئيلة من طاقاته معبأة ومجندة، فلماذا لا نجند ونعبئ طاقاتنا 100%؟... والجواب: لأن منظمة التحرير الفلسطينية لا تشكل حتى هذه اللحظة، الأداة القادرة على تعبئة طاقات كل الجماهير الفلسطينية في لبنان وفي سوريا والأردن وأمريكا وفي كل التجمعات الفلسطينية.. أتمنى أن تكون القيادة الفلسطينية بمستوى الجماهير، وحماسها، وطاقاتها، وامكانياتها، واستعداداتها العالية لتقديم كل التضحيات.. لماذا لا نهدف أن تكون م. ت. ف، ولو بعد ثلاث سنوات، كجبهة التحرير الوطني الجزائرية، إطار جبهوي يحتفظ كل فصيل فيه باستقلاله الإيديولوجي والتنظيمي وإذا كان هذا هدفنا وأمنيتنا فإنه يتطلب التالي:
القيادة الجماعية، احترام المؤسسات وتشكلها على أساس التمثيل الديمقراطي النسبي، وأعلن أمامكم أن هذه المعركة، معركة الإصلاح الديمقراطي، ستكون على رأس معاركنا في الدورات القادمة للمجلس الوطني، وسنضم أيدينا لكافة الفصائل التي تستشعر خطورة هذه القضية، وتعرف نتائجها على المدى البعيد.
وفي هذا الإطار أتساءل، هل صحيح أن حجم الجبهة الشعبية في المجلس الوطني، هو حجم الأصوات التي ارتفعت ضد قرار /242/؟؟.. أنا غير مقتنع بذلك، وعندما أسمع أن (78%) من جماهيرنا في الداخل ترفض معادلة الدولة الفلسطينية مقابل الاعتراف بإسرائيل، فمن حقي أن أقول إن الخط السياسي الذي تمثله الجبهة الشعبية، لا يشكل نسبة (14%)، كما هو حاصل الآن في المجلس الوطني، من هنا سنعمل على إعادة تنظيم وتأسيس م. ت. ف على قاعدة التمثيل النسبي. وحينها سنتعهد للجميع بأننا سنخضع لرأي الأغلبية، ودون الاتفاق على مجموعة أسس ومقاييس تحدد حجم كل فصيل، وحجم كل خط سياسي، فمن حقنا الاعتقاد بأننا نمثل الأغلبية، كما هو حق الديمقراطية وجبهة النضال وغيرها... هكذا نفهم في الجبهة الشعبية موضوعة الإصلاح الديمقراطي الواجبة في إطار م. ت. ف.
قد يعتقد البعض بعدم وجود علاقة بين هذا الموضوع. وبين الانتفاضة وجوابي أن هذا الموضوع هو في جوهر الانتفاضة، وهذا ما يفسر حديث الرفيق حاوي وتألمه من التقصير الحاصل في دعم الانتفاضة رغم مرور عام عليها. ويدفعني أيضاً للتساؤل عن دور الجماهير الفلسطينية في الخارج.. صحيح أن تلك الجماهير تألمت جداً، وكانت متجاوبة مع الانتفاضة دون شك، ولكن إلى أي حد كانت قواها معبأة؟؟ وهل هذه هي طاقاتها وإمكانياتها؟؟ من هنا مرة أخرى تأتي أهمية وضرورة عملية الإصلاح.
امتداد الانتفاضة مازا نقصد بذلك.... ما نقصده هو امتدادها لتشمل جماهيرنا الفلسطينية في المناطق المحتلة منذ عام 1948، ولا اعني بذلك أن الدولة الفلسطينية التي سنقيمها مرحلياً ستضم الجليل إليها، ولكن من أجل فرض المزيد من الضغوط على إسرائيل، وإجبارها للتعاطي السياسي مع الانتفاضة، نظراً لأهمية الضغط المحلي والداخلي وتأثيراته. إذ ورغم القيمة الكبرى للضغوط الدولية، إلا أن إسرائيل والقوى الفاشية لا تعطي أي قيمة للرأي العام الدولي.. وهذه هي جنوب إفريقيا محاصرة ومقاطعة دولياً ومع ذلك تضرب عرض الحائط بكل تلك الضغوط.
إسرائيل، لازالت رغم مرور عام على الانتفاضة، تصرّ على القمع.. كيف نجبرها على تغيير أسلوبها، كيف نجبرها بالموافقة على المؤتمر الدولي؟؟ هناك طريقة واحدة لذلك، وهي زيادة خسائرها الاقتصادية إلى أعلى حد.. ونلحق بها كافة الخسائر الممكنة مع الحفاظ على الطابع الجماهيري للانتفاضة.. أما في لبنان، فهناك خمسة عشر ألف فلسطيني مسلح، مهمتهم أن يشكلوا عامل دعم للانتفاضة، وعمل ضغط على إسرائيل حتى ترضخ لمطلب الحرية والاستقلال، وحتى تقبل بفكرة المؤتمر الدولي.
في أيار وحزيران الماضيين، اندلعت حرب الحرائق في منطقة الـ48 وألقيت عشرات الزجاجات الحارقة في العديد من مدنها، اهتزت لها إسرائيل... وقد قرأت عدة افتتاحيات لصحف إسرائيلية تقول "إن الانتفاضة إذا امتدت إلى العمق فإننا سنصبح أمام مصيبتين"... ونحن نريد أن تكون أمام أربعة مصائب، ويجب علينا أن نستغل كل أسلحتنا ضدها، وأن لا نقلل من قيمة العامل المحلي، والعامل العربي... لابد من النضال لأجل تغيير ميزان القوى في الحلقة العربية، إذ لا يمكن القبول بأن تبقى هذه الحلقة معطلة.. لقد كان للجماهير العربية تاريخ مديد ومشرف في نضالها ضد الإمبريالية ولا يمكن أن نخضع لاعتبارات اللحظة السياسية الراهنة، وعلى الثوريين أن يفهموا الواقع من أجل تغييره، عندها فقط سترتعد فرائص إسرائيل وأمريكا أيضاً، اللتين تراقبان باهتمام تفاعلات الانتفاضة فلسطينياً وعربياً... يجب أن لا نيأس ويجب أن لا نستسلم.
أما على الصعيد الرسمي العربي، فإننا نطالب بتطبيق وتنفيذ قرارات قمة الجزائر، التي كانت من أولى الانتصارات السياسية للانتفاضة... لقد كان تقييمنا لتلك القرارات أنها جيدة، ولكن المهم الآن هو تطبيقها، وخاصة في جانب الإسناد المادي الذي يضمن لجماهيرنا المنتفضة الحد الأدنى من متطلبات الحياة. ويؤسفني القول أن غالبية الدول العربية لم تنفذ قرارات قمة الجزائر، بل نفذت توصيات الإدارة الأمريكية بتجفيف موارد م. ت. ف.
وبالنسبة للعلاقات الفلسطينية السورية وهي نقطة مركزية في تفكيرنا كجبهة شعبية أقول أن المصالح الاستراتيجية العليا لسوريا، والمصالح الاستراتيجية العليا للثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير، تتطلب من كلا القيادتين ومهما كانت العقبات القائمة حالياً، إعادة فتح ملف العلاقات الثنائية فيما بينهما ولمصلحتهما المشتركة.
أما الأمل الحقيقي فهو الجماهير العربية... فالساحة اللبنانية مفتوحة أمامنا من خلال التحالف الذي كان قائماً فيها بيننا وبين الحركة الوطنية اللبنانية، وقد سجل التاريخ العربي علمياً أروع صفحات هذا التحالف... من هنا أرى من الضروري العمل الجاد على إعادة هذا التحالف، وأن يحتل الأولوية في تفكيرنا ومهامنا على الصعيد العربي... وعلى منظمة التحرير أن تصحح وتوضح موقفها وخطها.
فيما يتعلق بهذه العلاقة، وفيما يتعلق بموقفها من المشروع الانعزالي المتصهين في لبنان، وهذه هي الخطوة الأولى التمهيدية في إعادة هذا التحالف المتين بين البندقية الفلسطينية والبندقية اللبنانية.
من هنا، وإلى أن يتحقق ذلك، نرفع مع رفاقنا في الحزب الشيوعي اللبناني، ومع رفاقنا في الحركة الوطنية اللبنانية، نرفع كل البنادق الوطنية في وجه إسرائيل والاحتلال الصهيوني، بنادق فصائل م. ت. ف. بنادق الفصائل التي لازالت خارجها بنادق الحزب التقدمي الاشتراكي، بنادق أمل وحزب الله. ولنرفع شعار "فلتتوجه هذه البنادق ضد العدو الصهيوني"... وهنا أيضاً أقول لرفاقي في الحركة الوطنية اللبنانية، إن إعادة التلاحم الفلسطيني اللبناني، وتوجيه كل البنادق الوطنية والإسلامية اللبنانية والفلسطينية ضد إسرائيل، هي اكبر وأنشط رئة يمكن فتحها لتتنفس منها الانتفاضة في عامها الثاني.
وبالمناسبة، سمعتم اليوم أن إنزالاً إسرائيلياً قد جرى فوق الناعمة، وأن قتالاً باسلاً قد جرى فيها، أدى لمقتل ضابط واثنين من الجنود الصهاينة، شارك فيه الحزب التقدمي الاشتراكي والقيادة العامة، التي استشهد فيها الشهيد البطل "أبو جميل"، وأقول أن هذه أكبر هدية نقدمها للانتفاضة في عيدها الأول... أملي كبير، وثقتي كبيرة أن تكون هذه الرئة، الرئة الفلسطينية اللبنانية، رئة العمليات المتعددة والمتنوعة، عمليات المقاومة الوطنية اللبنانية، عمليات البطلة سهى بشارة المتكررة كل يوم، تكون قد انفتحت أمامنا عندما نحتفل في العيد الثاني للانتفاضة... لأن إحداث تغيير في ميزان القوى العربية، يتوقف إلى حد ما على هذه الساحة.. الساحة اللبنانية.
يجب أن تشكل الانتفاضة صرخة بالنسبة للأحزاب العربية التقدمية في كل الوطن العربي، صرخة عنوانها: لماذا لم تتحركوا؟؟ أقول هذا من منطلق المحبة الأخوية والرفاقية، منطلق التفكير والمسؤولية المشتركة وآمل أن يحمل العام القادم الإجابة العلمية على هذا السؤال.
على الصعيد الدولي: علينا أن ندرك أهمية الحلقة الأممية وخاصة في هذه الفترة بالذات، وبالتالي- بمساعدة الحلفاء الحقيقيين- تواجهنا المهمات التالية:
أولاً: طرح متواصل لموضوع الإشراف الدولي على المناطق المحتلة من الأرض الفلسطينية، حتى لو استخدمت الإدارة الأمريكية الفيتو ضده عشرات المرات إذ لا يعقل أن تبقى جماهيرنا تحت رحمة سلطات الاحتلال وتستمر في معاناتها وعذاباتها... هذه الأرض فلسطينية، كما اعترف بذلك مجلس الأمن الدولي، وهي أيضاً محتلة، كما تعترف بذلك الأمم المتحدة ومجلس الأمن، إذن على هذه المؤسسة الدولية أن تقوم بواجباتها في حماية جماهيرنا.
ثانياً على ضوء الواقع العربي القائم، يجب أن نستعمل كل أسلحتنا وعلى رأسها المؤتمر الدولي، رغم قناعتنا "أن ما أخذ بالقوة لا يمكن أن يسترد إلا بالقوة"، ورغم معرفتنا التامة، أن هناك البعض قد وافق على قرار /242/ منذ إحدى وعشرون عاماً، وبعضهم جرب المرونة بل وما دون المرونة ولم يحقق شيئاً حتى الآن.. ولكن لنجرب ونأتي بالعالم كله، ونقول له: انظر هذه هي إسرائيل التي صنعت، انظر ماذا فعلت بالمنطقة وبالشعب الفلسطيني... وليقف المجتمع الدولي أمام حل للمشكلة الفلسطينية من جميع جوانبها في هذه المرحلة، حل شامل ولا أقول عادل ولا دائم.
المؤتمر الدولي سلاح في يدنا يجب أن نستعمله، وهو شعار كفاحي لمصلحتنا، ولكن هل تعتقدون أن إسرائيل ستقبل بذلك.. يجب أن نسعى لإيجاد ميزان قوى يرغمها على القبول به، والقبول بأن تكون منظمة التحرير هي الطرف الفلسطيني فيه، كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، ثم النضال لأن تقر بالحقوق الوطنية المشروعة لشعبنا.
ثالثاً: يجب أن نرفع صوتنا عالياً، مطالبين أصدقائنا بضرورة تقديم الدعم والمساندة للشعب الفلسطيني واستمرارها، ولا نكتفي بذلك وحسب، بل نطالبهم أيضاً باتخاذ إجراءات قاسية ضد الكيان الصهيوني، وأن نرفع دولياً وأممياً شعار "معركتنا ضد النازية الجديدة، هي معركة كافة القوى التقدمية والديمقراطية". تماماً كما كانت معركتها ضد النازية القديمة.
أيتها الرفيقات.. أيها الرفاق
إن دماء أهلنا التي سالت في الأرض المحتلة، تفرض علينا أن نفكر بمسؤولية وجدية، تفرض علينا أن نستنفر كل طاقاتنا وإمكانياتنا.. أن نكون صادقين وأمينين في كل كلمة نقول، وأن نسد كل فجوة ما بين القول والممارسة.. فأهلنا وأطفالنا يستحقون منا هذا الشعور العميق بالمسؤولية.
* تحية لأطفال الحجارة.
* تحية لرماة زجاجات المولوتوف.
* تحية للأيدي التي تحمل السكين وتطعن بها جنود الاحتلال.
* تحية لرفاقنا الأسرى المضربين عن الطعام منذ أيام.
* تحية لكل الشهداء... أمهات الشهداء... زوجات الشهداء.
وفي هده اللحظة بالذات لا يسعني إلا أن أتذكر أرواح شهداءنا الأبطال الرموز، عز الدين القسام، عبد القادر الحسيني، جيفارا غزة، غسان كنفاني، والقائد الرمز أبو جهاد... أتذكر أخي ورفيقي وحبيبي طلعت يعقوب.
* تحية خاصة لجماهير الجليل والمثلث والنقب وكافة مناطق أرضنا المغتصبة منذ عام 1948.
* تحية للمقاومة الوطنية اللبنانية، والتي يؤسفني ويؤلمني القول أنها لم تأخذ ما تستحق من الاهتمام على الصعيد العربي رسمياً وشعبياً، والتي لعبت دوراً هاماً في تفعيل الانتفاضة داخل الأرض المحتلة.
* تحية لكل القوى وفصائل حركة التحرر العربي.
* تحية لمعسكر قوى السلام والتقدم والتحرر والاشتراكية، وفي طليعته الاتحاد السوفياتي الصديق.
* تحية لكوبا البطلة وللرفيق فيديل كاسترو الذي يتمتع بمنزلة خاصة بالنسبة لشعبنا.
قبل أن أختتم كلمتي، وعلى ضوء الحرب النفسية التي يشنها العدو الصهيوني والإمبريالية والرجعية العربية، أريد القول أننا نقاتل من أجل معركة منتصرة، نحن لا نقاتل باعتبار ذلك واجباً فقط ولا انطلاقاً من البيت القائل:
شرف الوثبة أن ترضي العلا
غلب الواثب أم لم يغلب
نحق نقاتل من أجل قضية عادلة منتصرة، وإذا كان العدو يريد إخافتنا بالحديث عن صواريخه عابرة القارات... فإننا نخيفه بالحجر، بل إنه يخاف من مجرد التوالد الفلسطيني، والذي وصل خلال فترة الانتفاضة إلى خمسة وعشرين ألف طفل في الضفة والقطاع.
سنواجه العدو الصهيوني بالتوالد، ليس في الضفة والقطاع فقط، بل وفي الجليل وبئر السبع واللد وكل مدن فلسطين، وجميع التجمعات الفلسطينية أينما كانت.
سنواجه إسرائيل بالحجارة والبندقية، وبكل الأسلحة بما في ذلك الأدب والفن... حتى يندحر الاحتلال.
وليكن شعارنا ومحور نضالنا وعملنا نحن وجميع القوى التقدمية العربية،.. الانتفاضة... الانتفاضة.
والسلام عليكم

نعي الدكتور جورج حبش لرفيق دربه القائد الشهيد وديع حداد


الدكتور حبش ينعي الشهيد وديع حداد 

نعي الدكتور جورج حبش الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لرفيق النضال الشهيد الدكتور وديع حداد :
 


يا رفاق وديع .



يا ثوار شعبنا الفلسطيني المكافح .



يا شعبنا الضارب الجذور في تربة فلسطين رغم الاحتلال .



يا إخوتي في كل منفى ومخيم .



يا جماهير أمتنا العربية .



أيها التقدميون الرفاق في كل العالم .

بقلب يملؤه الحب والألم والحزن والإصرار على التشبث بطريق الكفاح .. طريق النصر .. انعي لكم رفيق الحياة والدرب والكفاح ..أنعي لكم وديعاً . أنعي لكم السنبلة التي نبتت في صفد , وعندما جاء الغزاة وجدوا السنبلة رمحاً .

أنعي لكم وديع المخيمات والفقراء .. وديع التصدي للغزو الصهيوني والمؤامرات الرجعية الهاشمية .. وديع التشرد والكفاح والسجون .

أنعي لكم وديعاً الطبيب الذي فضل علاج الشعب والجماهير والقضية على علاج الأفراد , وديعاً المبكر في دق أبواب الكفاح بكلتا يديه .. وديعاً الذي قضى مضاجع العدو الامبريالي الصهيوني الرجعي في كل مكان داخل أرضنا المحتلة وخارجها .

انعي لكم رفيقي أبا هاني .

أنعي لكم جسده..

فمن كانت لهم روح وديع وعزيمته لا يموتون إلا بالجسد .. وديع باق بيننا .. بشعلة الكفاح المسلح التي تتلمس وهجها في عيون أطفالنا المسروق منها الوطن .. في إصرارهم على الكفاح حتى الانتصار ..وديع باق بيننا برفاقه الذين يجددون العهد له ولكل الشهداء على مواصلة الطريق .. وديع باق بيننا .

بالمثال الرائع المضيء الذي كانت حياته مناضلاً وثائراً ما عرف الحياة إلا نضالاً وثورة .

وديع المناضل العنيد القائد الصلب باق ما بقيت الثورة .. وليس أبقى من هذه الثورة إلا الوطن الذي تشتعل هذه الثورة من أجله .


يا رفاق وديع .

يا أبناء ثورتنا  وشعبنا .

أيها التقدميون الرفاق في كل العالم .

مؤلم في هذه الظروف الصعبة والمصيرية أن نفتقد بين صفوفنا ركناً من أركان ثورتنا كوديع حداد الذي كان قدوة في التصميم على اختراق كل الظروف العصيبة والمصيرية .

في هذه الظروف حيث تتعرى كل الدنيا ويتألب كل الأعداء والمستسلمين والمتآمرين في محاولة اقتلاع بندقيتنا من أيدينا .. في محاولة اجتثاث الصمود الأسطوري الذي تتمثل فيه انتفاضة شعبنا في وطننا المحتل كما تمثلت وتتمثل وقفة مقاتلينا في جنوب لبنان .

في هذه الظروف .. لا يمكن أن تملأ الفراغ الذي يخلفه غياب وديع إلا بما يحفزه هذا الغياب في نفوسنا جميعاً من عزم على مواصلة التشبث بالأرض والبندقية والصمود وبحتمية الانتصار , فهذه الأمة التي أنجبت شعبنا وثورته وشهداءه محال أن تستكين لريح الهجمة الامبريالية الصهيونية الرجعية التي تبدو طاغية مرحلياً .. ومهما بلغ العتو في الطغيان وهذا العصر الذي تتحقق فيه إرادة الشعوب تتهاوى فيه صروح الاستعمار والطغيان واحداً بعد الآخر لا يمكن إلا أن تتحقق فيه إرادة شعبنا بعد أن وجد طريقه إلى البندقية .. إلى الثورة .

يا رفاق وديع .

يا أبناء ثورتنا وشعبنا .

يا جماهير أمتنا العربية وقواه الثورية .

أيها التقدميون الرفاق في كل العالم .

في هذه المناسبة الأليمة , علينا أن نجدد العهد والعزم وأن نستلهم الدروس من فقيدنا الغالي , ففي ذلك وفاء له والوفاء للشهداء هو الوفاء للثورة .

وأبرز ما في حياة وديع وكفاحه من دروس هو أن وديعاً قلب المعادلة بين الثائر و العدو رأساً على عقب , فتحول الثائر من مطارد يلاحقه العدو في كل مكان .. إلى مطارد يلاحق العدو في كل مكان .. إنها ذروة الثقة بإمكانيات الشعب والثورة أن نلاحق العدو ولا نترك له فرصة للهدوء ..
بنفس القدر الذي نحصن فيه مواقعنا بصمود الثوار الذي لا يتزعزع .. وبالتحام الثوار بجماهيرهم التحاماً عضوياً متكاملاً .. فليعلم الأعداء وبهذه المناسبة بالذات .. أن وديعاًُ لم يمت ,  وأن فرصه للاطمئنان بهذا الحدث لن يحصلوا عليها .. وسنبقى مدرسة الوفاء للوطن للشهداء لوديع وغسان وأبو على إياد وكمال عدوان وابو يوسف النجار وكمال ناصر وباسل الكبيسي وجيفارا غزة وأبو منصور وأبو طلعت وأبو أمل وكل الذين أضاءوا بشهادتهم طريقنا إلى فلسطين .. وكتبوا بدمائهم وثيقة الانتصار .


                                                                  د.جورج حبش

 الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين 



_صحيفة صوت الثورة / صحيفة إسبوعية تصدرها اللجنة الإعلامية للجبهة الشعبية لتحرير عمان / السبت 15 أبريل 1978 السنة 7 العدد356 .
     

الخطاب التاريخي للدكتور جورح حبش في المؤتمر الوطني السادس


الرفيقات والرفاق أعضاء المؤتمر الوطني السادس
تحية الثورة... تحيه فلسطين والعروبة؛
حديثي إليكم في هذا المؤتمر له أهمية خاصة واستثنائية، فهذه كلمتي الأخيرة التي سأتحدث فيها معكم بصفتي الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الأمر الذي يفرض عليّ أن أخاطبكم بصورة تختلف عما درجت عليه العادة في مؤتمرات الجبهة السابقة. إذ لا يعقل أن أقفل ملف مهمتي كأمين عام للحزب دون التبصر في مراجعه هذا الملف وما آلت إليه أوضاع الحزب.

رفاقي ورفيقاتي الأعزاء،
أستذكر في هذه اللحظة مسيرة الجبهة الشعبية الطويلة، وأستذكر الرفاق الأوائل الذين وهبوا عمرهم في سبيل قضية فلسطين والأمة العربية، أستذكر عشرات الوجوه لرفاق أحبة سقطوا وهم يحلمون بالحرية والتقدم، تاريخ مجيد حافل بالعطاء والصدق، وفي نفس الوقت حافل بالتضحيات والآلام والدموع، أستذكر كل ذلك... فيبدو لي كم هو قراري صعب، إنه من صعوبة الرحلة التي قطعتها على طول المسافة الزمنية الممتدة بين أيام الشباب وصولاً إلى لحظة الشيخوخة، مسافة تغمرني بالبهجة لأنني بذلت قصارى جهدي، وأعطيت قدر المستطاع، دفاعاً عن حقوق وتطلعات شعبنا وأمتنا، كما أنها تغمرني بالحزن لكل العذابات والآلام وسيل الشهداء والجرحى والأسرى الذين تدفقوا ليحملوا راية فلسطين، ورغم نلك وصلت الأمور إلى هذه اللحظة والمرحلة، حيث التراجع والإحباط والتساوق مع المشاريع الأمريكية- الإسرائيلية.
ومع ذلك، ورغم كارثية اللحظة وقساوة التحديات، إلا إنني لا زلت أمسك بخيط من الأمل، ليس من منطلق عاطفي، وإنما لأنني أدرك طبيعة الصراع، وأدرك أصالة هذا الشعب وهذه الأمة، كما أعرف دروس التاريخ، وبأن الهزائم والإحباط ومهما امتدت زمنياً فإنها تبقى مؤقتة وعابرة، فالشعوب في نهاية المطاف هي صاحبة الكلمة الفصل، وهي قادرة على أن تطلق أحلامها وآمالها مقاومة وصموداً ودفاعاً عن أهدافها ومصالحها...
وشعب فلسطين بما يمثل من حقيقة ديموغرافية وتطلعات تحررية وعدالة قضية وبما له من عمق حضاري وإنساني، ومن تجارب وتراث نضالي وتضحيات، لا يمكن إلا أن ينهض من جديد... هذه هي دروس ثورات العشرينات، والثلاثينات والأربعينات وصولاً إلى انطلاق مقاومته الوطنية المسلحة التي توجت بانتفاضة شعبية عارمة نقشت صفحاتها في سفر التاريخ.
كما أن شعب فلسطين، بكل هذا العمق العربي والحضاري، لابد إلا وأن يكون شعب المستقبل... لشعب الحياة، مهما بدت الأمور صعبة وقاسية في هذه الأيام. فالأمة العربية ليست مجرد قبائل متناحرة، أو أمة ولدت على هامش التاريخ، وإنما أمة كان لها مأثرة في قيادة العالم على مدار قرون متتالية، أمة عريقة ذات تراث ومنجزات إنسانية غطت كافة مجالات حقول العلم بلا استثناء، أمة عاشت قمة الازدهار في الوقت الذي كانت تغرق أوروبا فيه في ظلمات العصور الوسطى، أمة امتدت ثقافتها وتأثيرها من الصين إلى إسبانيا، إن لم نقل العالم أجمع، ولم يكن ذلك ليكون لولا امتلاكها مقومات هذا الدور. وهي بما تختزنه من إمكانيات بشرية واقتصادية واستراتيجية إنما هي مجبرة على مواجهة المخططات التي تستهدف وجودها اتصالاً بتطلعاتها المستقبلية.
الرفيقات والرفاق الأحبة في الوطن والشتات،
لقد اتخذت قراري بعدم ترشيح نفسي للأمانة العامة بعد دراسة وتفكير عميقين، وتفاعل واسع مع العديد من الرفاق.
ومن الطبيعي أن يدور في ذهن كل واحد منكم السؤال التالي:
لماذا أيها الحكيم؟ هل بسبب المرض؟ جوابي بالطبع كلا، إن الوضع الصحي لم يحل يوماً دون قدرتي على قيادة الجبهة الشعبية، ولم يؤثر على عزيمتي وإصراري على مواصلة الكفاح طيلة هذه السنوات. وإن مقياس الصحة بالنسبة لي هو القدرة على أداء الواجبات والمهام المطلوبة مني كأمين عام.
إذن هل هو التعب؟ إنني وبكل صدق رفاقي لم أحاكم يوماً في حياتي النضال باعتباره عملاً متعباً، وإنما كنت أتعامل معه كنمط حياة، لأنني كنت أدرك طبيعة الصراع ومتطلباته وشروطه، لم يكن العمل النضالي بالنسبة لي هواية، وإنما كان مسؤولية وطنية وقومية كبرى، تحتاج إلى تحشيد الطاقة وتكثيف الوقت والعمل، وتوفير العقل.
أم هل هو بسبب الأوضاع والإحباط والحالة العامة السيئة التي يعيشها الجميع؟!
جوابي بالطبع كلا، إن أحد أهداف كلمتي هذه هو الإسهام في مواجهة الأسئلة الكبرى التي يطرحها الواقع، في محاولة للإسهام معكم للوصول إلى إجابات أو بداية إجابات لمجابهة هذا الواقع السيئ.
إذن ما دام الأمر ليس كل هذا، فما هي الأسباب الحقيقية وراء مثل هذا القرار المصيري بالنسبة لي كإنسان أسهم في النضال الوطني والقومي ومن موقع المسؤولية الأولى، سواء في أيام حركة القوميين العرب، أو أثناء مسيرة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين؟
هناك سببان رئيسيان يقفان وراء قراري التاريخي هذا:
الأول: رغبة سابقة لدي تبلورت في أواخر الثمانينات بتقديم مثل ونموذج للآخرين، بأن الإنسان المناضل والقائد يستطيع أن يستمر في العمل والعطاء حتى بدون مواقع قيادية رسمية، هذا من جانب ومن جانب آخر إعطاء مثل نقيض للحالة العربية والفلسطينية، والتي تتجسد في تشبث المسؤولين في مواقعهم مهما طال بهم العمر، حيث لا مجال لتداول السلطة إلا تحت وقع الموت أو الانقلابات.
قد يبدو للبعض أن هذا الكلام قد جاء متأخراً، ومع ذلك فهذا سبب حقيقي، كان ينضج في فكري ويتبلور باستمرار، ولم يكن استمراري في منصبي كل هذه السنين بأي حل من الأحول تحت ضغط الامتيازات، أو الحفاظ على المركز، أو تلبية نداء التمسك بالكراسي، بل كان نابعاً من نداء الضمير وواقع الجبهة وتطورها أولاً وعاشراً.
ثانياً: في ضوء الوضع العام والإجمالي، أشعر وأدرك أنه من الأفضل لي في السنوات المتبقية من عمري، التركيز في عملي على مهمات وطنية وقومية، أعتقد أنها تحظى بمكانة محورية ومركزية في العمل الوطني والقومي أكثر من استمراري في مهمة الأمانة العامة. دون أن يعني هذا الكلام أي انتقاص أو مساس بأهمية هذا المنصب الذي يتطلب كل الهد والطاقة والعطاء. ولكنني كجورج حبش وفي ظل الوضع المحيط والخاص أصبحت على قناعة بأنني سأفيد أكثر بإحداث هذه النقلة الجديدة في حياتي.. دون أن يعني ذلك بأي حال من الأحوال الابتعاد عن الجبهة التي أعطيتها عمري، أو عن العمل السياسي والمهمات النضالية الأشمل وطنياً وقومياً كما ذكرت..
في ضوء ما تقدم، ما هي المهام والميادين التي أعتقد أنني وبما أملك من تجربة وخبرات وما تبقى لي من عمر أستطيع العطاء فيها، ومواصلة النضال ولكن بأشكال جديدة؟
هناك أولاً: توثيق وتسجيل تجربة حركة القوميين العرب وتجربة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وتجربتي الشخصية والنضالية لتستفيد منها الأجيال القادمة.
أيها الرفاق،
إن ما عشته وراكمته طوال هذه العقود النضالية ليس بالأمر البسيط، وبالتالي فإن من حق الرفاق والأجيال القادمة أن تقف على مضامين ودروس هذه التجربة بكل ما حفلت به من نجاحات وإخفاقات. إذ لا يمكن لنا أن نقتحم المستقبل دون أن نكون قد قرأنا تاريخنا جيداً، ليس بهدف التسمر عند ذلك التاريخ، ولكن بهدف استثمار الخبرة والتجارب كشرط ضروري للتعامل مع المستقبل، فالحاضر هو امتداد نوعي للماضي وفي نفس الوقت هو المقدمات المالية والفكرية التي تؤسس للمستقبل.
وبهذا المعنى فإن لدي ما أقوله، وبإمكاني قوله بصورة أفضل وأنا متحرر من قيود المناصب القيادية، فقراءة التاريخ تشترط الموضوعية، وهذا غير ممكن ما دام الإنسان منغمساً في تفاصيل الحياة الحزبية اليومية بكل أثقالها...
وهناك ثانياً مهمة تأسيس مركز للدراسات: عند استعراض تجربتي الماضية بصورة شمولية وبروح نقدية أشعر أن هناك العديد من الثغرات الجدية التي رافقت تلك التجربة، فالأحزاب أحياناً، والأفراد أيضاً، وفي غمرة العمل والنضال والصراع والاشتباك المستمر، وخاصة في ظل صراع مثل الصراع الذي خضناه ونخوضه كشعب فلسطيني، تفقد إمكانية الهدوء والمراجعة، وإن حدثت المراجعة فإنها تجري في سياق الأحداث وتحت ضغط الانفعالات وحرارة الاشتباك، فتأتي جزئية أقرب إلى ردود الفعل منها إلى قراءة ومراجعة نقدية في العمق...
فعلى سبيل المثال، وبنظرة عميقة لتجربة الماضي، ورغم كل التضحيات والإنجازات التي راكمناها، وهي ليست قليلة، إلا أنها تجربة تميزت بتغليب الشعارات والعاطفة في مفاصل ومواقف كبيرة، هذه الشعارات ورغم صحتها ومشروعيتها، إلا إنها لم ثُفرن بشرط نجاحها وتحقيقها ألا وهو الأداة الحاملة لهذه الشعارات والساعية لتحقيقها.
ومعروف علمياً أن الشعارات والأهداف الإستراتيجية لوحدها غير كافية لإدارة الصراع وتحقيق الانتصارات، بل إن ذلك يشترط تكثيف استخدام العقل والفكر في تحليل حقائق وحركة الواقع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبما يشمل ليس فقط الذات كشعب وأحزاب، وإنما أيضاً متابعة للمتغيرات التي يعيشها ويراكمها الطرف النقيض لصرفة أسباب وعناصر قوته وانتصاراته وعناصر ضعفه... وصولاً إلى إثبات موهبة الإمساك بالحلقة المركزية ومقدرة بناء الأداة الطليعية القادرة على حمل الفكر والبرنامج والشعار.
من هنا، ترسخت في ذهني وعقلي فكرة تأسيس مركز للدراسات، للمساهمة في مواجهة هذه الثغرات، دون أي مبالغة في أن هذا المركز سيجيب على كل الأسئلة، ولكنها خطوة، أعتقد أنها جديرة بالجهد والوقت، علماً أن نجاح المركز مشروط بتوفر الإمكانيات المالية والفكرية والتنظيمية، وآمل أن أنجح في محاولاتي لتوفير مقومات إنجاح هذا المشروع. وأنا أتعامل مع هذه المسالة كجزء عضوي مكمل للعمل الوطني السياسي والنضالي، وكجهد جديد يضاف إلى جهد المؤسسات العربية والفلسطينية المشابهة. مع إضافة ضرورية هنا وهي أن هدف هذا المركز سيتكثف في دراسة التجارب الوطنية الفلسطينية والقومية السابقة، مع تركيز خاص على أسباب الإخفاق والهزائم، إلى جانب تركيز مماثل على تجربة الحركة الصهيونية وأسباب استمرارها وانتصاراتها.
أما المهمة الثالثة: فمحورها العمل القومي، وهي ترتبط بالعمر والصحة، فإذا ما أتيحت لي سنوات أطول، وما دمت قادراً على العمل والفعل، فإنني لن أدخر جهداً في هذا الميدان...
ولا أقصد هنا بطبيعة الحال تأسيس حزب جديد، أو العودة لحركة القوميين العرب، وإنما بذل الجهد العقلي والعملي لإقامة نواة جبهة عربية قومية، وكلي أمل بتطورها في جبهة قومية واسعة تواجه المشروع الأمريكي- الصهيوني في هذه المرحلة.
تركيزي على هذا البعد ليس أمراً وجدانياً أو اعتباطياً، بل يعود إلى رؤية عميقة وقراءة تستند للواقع وموازين القوى، ومعرفة لطبيعة العدو ومشاريعه التي نجابهها، سواء في فلسطين أو على مستوى الوطن العربي، وهنا تطرح أسئلة كبيرة ومتعددة تفرض التفكير والدراسة حول واقع الحال العربي، وخصوصاً ما يتعلق باستنفاذ المشروع القطري لطاقته التقدمية منذ زمن، وتعرض منجزاته للضرب والتفكيك، وتحول برجوازيات المشروع الوطني الاستقلالي إلى برجوازيات تابعة كومبرادورية تدور في فلك المركز الإمبريالي، وضرورة الرؤية العلمية لأسباب الضعف وعوامل الاستنزاف الداخلي، وترابط الأهداف الوطنية والقومية ببعديها السياسي والاجتماعي انطلاقاً من أهداف المشروع الصهيوني، والذي يتجلى بنزعة توسعية جغرافية في فلسطين واقتصادية على الصعيد العربي، والهادف إلى فرض التطبيع العام بغرض تسّرب روح الهزيمة وتحقيق الاختراق المتعدد الأشكال، الأمر الذي يفترض وبنفس القدر تحقيق شروط تفعيل ممكنات النهوض القومي، وإعادة الاعتبار لهذا البعد في الصراع ضد المشروع الصهيوني، وخاصة مناهضة التطبيع بما يمثله من ثقل وموقع في التخطيط الإسرائيلي لاختراق العمق العربي سياسياً واقتصادياً وثقافياً.
أيها الرفاق الأعزاء،
هذه هي عناصر المحور الأول في كلمتي إليكم والتي تتناول دوري ومهامي بخطوطها العامة في المرحلة القادمة. وفي هذا المجال أود أن أقول لرفاقي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ولأصدقائي ورفاقي في حركة القوميين العرب، والذين يعرفونني جيداً كما يعرفون أن الظروف الذاتية والموضوعية هي التي ستتحكم في قدرتي أو عدم قدرتي على إنجاز هذه المهمات، ولكن الدافع الرئيسي وراء تسجيلي لهذا المهمات وطرحها عليكم، إضافة لما لسبق ذكره، هو إنني أريد أن تتحول هذه المهمات إلى دليل عمل لكم وللأجيال القادمة. وسأبذل من طرفي كل جهد ممكن على هذا الطريق، وأتمنى أن أملك القوة والوقت للسير نحو تحقيقها، أو بصورة أدق لضمان إطلاقها وإرساء دعائم استمرارها.
المحور الثاني
يتركز حديثي في هذا المحور حول سؤال أساسي جوهره:
ماذا مثلت الجبهة أثناء وجودي كأمين عام لها؟
لقد عشت تجربة الجبهة منذ إرهاصات تأسيسها الأولى وحتى اللحظة، عشتها في أيام صعودها، وعشتها في لحظات الأزمات والصعوبات، فماذا كانت تعني الجبهة وفق رؤيتي؟
هل مثلت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين فعلاً قضية واحتلت مكانة مرموقة في وجدان وتاريخ الشعب الفلسطيني على مدار عمرها الذي يزيد على اثنين وثلاثين عاماً؟
لقد مثلت الجبهة وفق حقائق التاريخ والواقع بتضحياتها، بدماء شهدائها وصمود أسراها وعطاء أعضائها ورؤيتها السياسية وممارستها النضالية قضية كبيرة تجلت في التفاف قطاعات شعبية واسعة حولها على المستويين الفلسطيني والعربي.
فلماذا كان هذا الالتفاف، ولماذا احتلت الجبهة هذه المكانة المتقدمة في التاريخ الفلسطيني المعاصر؟
هل يعود السبب يا ترى إلى شخصية جورج حبش؟ قطعاً الجواب بالنفي.
إذن هل السبب بعض العمليات العسكرية المعينة؟ أم بسبب طبيعة الحياة التنظيمية التي حكمت بنيتها الداخلية؟ أم بسبب طبيعة ومواصفات الكادر الذي شكل نموذجاً مميزاً مقارنة بغيره؟ أم بسبب طبيعة العلاقة مع الجماهير...؟ أم هل يعود ذلك للهوية الفكرية للجبهة، والتي حاولت دائماً الربط الخلاق بين الوطني والاجتماعي، بين المرحلي والاستراتيجي، بين الوطني والقومي؟ أم هل يعود ذلك للتجربة المميزة للجبهة في ممارستها للقيادة الجماعية وإيجادها للمؤسسات الناظمة للعمل؟ أم غير ذلك؟ بعيداً عن التقليل من قيمة وأهمية هذه العوامل المذكورة، إلا أن هناك عواملاً أكثر أساسية وجوهرية، فما هي هذه العوامل؟
وفق قناعتي ورؤيتي فإن العامل الأساسي في تميز تجربة الجبهة الشعبية وخصوصيتها التي نالت كل هذا الإعجاب وهذا الدعم والتأييد، ولعبت كل هذا التأثير فلسطينياً وعربياً ودولياً، يعود بالأساس وبالدرجة الأولى إلى تشابك الخط السياسي الذي مثلته الجبهة في المشروع الوطني التحرري بالخط القتالي... والسير خطوات ملموسة في بناء الأداة التنظيمية- الجذع الذي يحمل هذين الفرعين، وهنا استذكر أدب الثورات الحثيثة التي أكدت عبر تجاربها وانتصاراتها المرموقة على هذا الجانب، وتحديداً في الصين وفيتنام، حيث لعب الخط السياسي دوراً حاسماً، إضافة بالطبع إلى الخط العسكري السليم المنسجم مع الخط السياسي.
ورغم أهمية الخط العسكري واستراتيجيته بالنسبة للتجربة النضالية الفلسطينية إلا إنني أود هنا التأكيد والتشديد على الخط السياسي، والسبب في هذا التأكيد يعود إلى حقيقتين أفرزتهما التجربة الفلسطينية المعاصرة:
1- أن الخط العسكري يأتي في صلب الخط السياسي، أي أنه جزء مكون من الرؤية السياسية... وبالتالي إذا كانت الرؤية السياسية سليمة وعلمية وثورية فإنها بالتأكيد ستمارس الشكل النضالي الملائم مع تلك الرؤية السياسية.
2- إن إخفاق الحركة الوطنية الفلسطينية، وارتداد قيادتها الرسمية ممثلة بفريق أوسلو لا يعود بالأساس إلى إخفاقها العسكري، أو لغياب كفاحية قواعدها التنظيمية أو الشعبية، وإنما يعود في هذه المرحلة إلى انهيار الخط السياسي لهذه القيادة الذي توج بانقلابها على البرنامج الوطني التحرري، وانخراطها في المشروع الأمريكي- الإسرائيلي للتسوية. اتصالاً بالتغيرات الطبقية- الفكرية- المعنوية- التي طرأت على النخب القيادية أولاً وقبل أي شيء آخر.
ارتباطاً بذلك يبرز السؤال: ما هو الخط السياسي الذي انتهجته الجبهة الشعبية؟ وإلى أية درجة راكمت شروط القيادة الثورية المجسدة لهذا الخط؟ الخط السياسي الذي سارت على أساسه الجبهة كما أراه، وأعطاها كل هذا التميز، يتمثل بأربعة مفاصل رئيسية:
المفصل الأول: امتلاك الجبهة لرؤية علمية واقعية للعدو وتحالفاته، وتبرز قيمة هذا الوعي بصورة أعمق عندما نستذكر حالة الخلط التي رافقت تجارب شعبنا التاريخية على هذا الصعيد، إبان ثورات لعشرينات والثلاثينات والأربعينات. لقد طرحت الجبهة وبوضوح شديد فهمها ورؤيتها لمعسكر الأعداء، وكشفت الأسس الاقتصادية والسياسية التي تكمن وراء الحلف لمعادي، وبينت خصائص المشروع الصهيوني كمشروع إمبريالي استيطاني، كل هذا وسواه أوصلنا إلى استنتاج محوري مفاده: أن حالة الاشتباك التاريخي بيننا وبين المشروع الصهيوني ستتواصل وتستمر بحكم طبيعة التناقض الذي يحكم الصراع باعتباره تناقضاً تناحرياً حصيلته النهائية: إما نحن أو المشروع الصهيوني. هل هذه الرؤية مغامرة أو متطرفة وغير واقعية كما يحلو للبعض وصفها في هذا الزمن، زمن الارتداد والانهيار؟ أم إنها رؤية علمية دقيقة وواقعية لإسرائيل وما تمثله هي وحلفاؤها باعتبارها نراع إمبريالي وجزء بنيوي من مشروع إمبريالي تأسيساً ومساراً وراهناً؟. إسرائيل التي قامت تأسيساً على أنها دولة للشعب اليهودي المسكين والمضطهد، دولة للشعب الذي تعرض للإبادة الجماعية، وإنها الحل الأمثل لما كان يسمى "بالمسألة اليهودية"، ليأتي قيامها على حساب اضطهاد وطرد الشعب الفلسطيني من أرضه ووطنه، وعن طريق أبشع المذابح وعمليات الاقتلاع، لتنتهي راهناً وعبر تحالفها العضوي مع الإمبريالية الأمريكية، دولة إقليمية عظمى تمتلك ما يزيد عن 200 رأس نووي وجيش حديث يتفوق على الجيوش العربية مجتمعة، وتشكل تهديداً ليس على الشعب الفلسطيني فقط، بل على الأمة العربية جمعاء، والمنطقة بأسرها.
إن نظرة جدية وعميقة للصراع ولمخططات وممارسات إسرائيل وسياساتها تبين جوهر المشروع الصهيوني كمشروع استيطاني عنصري يستهدف الهيمنة السياسية والاقتصادية على فلسطين والأمة العربية وكل ذلك تحت مظلة عسكرية تستند إلى تفوقها المطلق سواء في الأسلحة التقليدية أو النووية، وبإسناد كامل من الولايات المتحدة الأمريكية. وبهذا المعنى يأخذ حل التناقض التناحري مفهوم حل الصراع على أساس التصفية السياسية للقضية الفلسطينية ولحقوق الشعب الفلسطيني الوطنية والتاريخية وفرض الرضوخ والاستسلام على الأطراف العربية وإجبارها على التساوق مع المشروع المعادي والانزلاق فيه. غير أننا نعتقد، بالنظر إلى طبيعة التناقض التناحري ودوام الاشتباك التاريخي، إن المشروع التسووي لا يتعدى إدارة الأزمة دون حل لها، بما يتيح للتحالف الأمريكي- الإسرائيلي تحقيق انتصارات ونجاحات توسعية استعمارية. وبالرغم من كثافة الحملة الإعلامية، العالمية والعربية، والتي تحاول ترويج العملية الجارية على أنها "عملية سلام"، هذه الحملة والتي تجد لها صداً وتأثيراً على شعوبنا العربية، في الوقت الذي تثبت هذه حقائق التاريخ والواقع أن ما يجري ليس سلاماً حقيقياً، بل تسوية مؤقتة بالمعنى التاريخي، لأنها تأتي في ظل التغيرات الدراماتيكية الهائلة التي عصفت بالعالم وبالوضع العربي في العقد الأخير من القرن الماضي، كما تأتي في ظل التحولات النوعية التي طالت القيادة الفلسطينية المهيمنة. ولأنها أيضاً تسوية لا نلبي الحد الأدنى من الحقوق المشروعة والتاريخية لشعبنا وأمتنا.
قد تكون الجبهة في سنواتها الأولى ركزت على رؤيتها الإستراتيجية، ولكن من خلال التجربة توصلت إلى أهمية وضرورة الربط ما بين الاستراتيجيا والتكتيك السليم، حيث أكدنا باستمرار على الترابط الوثيق بينهما، ولكن في نفس الوقت لم نقوض أسس استراتيجيتنا السياسية لصالح السياسة الجارية، وهذا ما عكسته وثيقة طرابلس التي أكدت على العلاقة الجدلية ما بين الاستراتيجي والمرحلي في النضال، وما بين البرنامج السياسي وإعادة البناء الديمقراطي لمؤسسات م. ت. ف.
المفصل الثاني: رؤية وقناعة الجبهة بضرورة تحشيد الجماهير الفلسطينية بدون استثناء (الفئات، الشرائح، الطبقات) وذلك استجابة لطبيعة ومهمات مرحلة التحرر الوطني، غير أن الجبهة كانت تحرص دائماً على أن تكون قيادة الثورة قادرة على حشد وتعبئة كل طبقات الشعب، كون هدفها هو المصلحة الوطنية العليا لعموم الطبقات، وحتى تتمكن من ذلك فإنها (أي القيادة) يجب أن تكون معبرة عن تلك المصالح وقادرة على الدفاع عنها وحمايتها، وهذا غير ممكن عندما تكون القيادة فردية ونخبوية وتعبر عن مصالح الطبقة البرجوازية الكومبرادورية كما هو حاصل حالياً. من هنا كان تركيز الجبهة على أهمية أن تكون القيادة قادرة من حيث رؤيتها وفكرها وممارستها الطبقية على حماية مصالح وحقوق الشعب. وعندما كانت الجبهة تشعر بأن قيادة الثورة الرسمية أو السائدة تنحو بالثورة باتجاه الانكفاء على مصالحها الضيقة كما هو حاصل الآن، وتجيير النضال الفلسطيني واستثماره في خدمة الامتيازات والثراء غير المشروع للبيروقراطية المهيمنة المتحالفة مع البرجوازية الكومبرادورية التي تميل باستمرار للتضحية بمصالح الشعب والأمة لصالح أهدافها الطبقية الخاصة، كانت تتمرد وتثور في مواجهة تلك القيادة وخياراتها السياسية التفريطية.
هذا ما يفسر موقف الجبهة عند انعقاد مجلس عمان عام (1984) ورفضها المشاركة فيه، وهذا ما يفسر إقدامها على إقامة تشكيلات للمواجهة والممانعة من جبهة الرفض، والقيادة المشتركة، والتحالف الديمقراطي، ورغم أية انتقادات يمكن تسجيلها على مثل هذه التجارب، إلا أن الدافع وراءها كان باستمرار الشعور بالمسؤولية الوطنية، واستشعار جدية المخاطر التي تكمن في الخط السياسي للقيادة البرجوازية. وقد استطاعت الجبهة في بعض المراحل أن تلعب دوراً رئيسياً، إن لم يكن الدور الرئيسي في فرض التراجع على تلك القيادة وإرغامها بالعودة عن مواقفها، كما حصل بالنسبة لاتفاق عمان في المجلس الوطني التوحيدي في الجزائر.
إن ما نشهده الآن من حقائق ومآسي لحقت بالحركة الوطنية الفلسطينية والقضية الوطنية هو برهان حي على جدية هذه المسألة العلمية، ولعل أحد أسباب إخفاقاتها أننا لم نستطع عند اللحظة المناسبة أن نكون بمستوى ترجمة هذا الخط الصائب، فأضعنا الفرصة التاريخية السانحة لمواجهة انحرافات البرجوازية وخط سيرها المتهافت سياسياً.
وهذا التحدي يتواصل راهناً ولتضاعف قيمته بعد أن أصبحت تلك القيادة تملك سلطة وأجهزة أمنية في أرض الوطن، ومندرجة في مشروع سياسي متساوق مع مخططات وأهداف الاحتلال الإستراتيجية، إضافة إلى تبلور شريحة من السماسرة والوكلاء والمافيا المتحالفة مع القيادة الرسمية التي أخذت تعزز سلطتها السياسية والأمنية بسلطة اقتصادية تابعة ومرتبطة بالاقتصاد الإسرائيلي، ناهيك عن الفساد والإفساد المستشريين في هذه السلطة وأجهزتها المختلفة. ودعوني ألمس الجرح، هل أصبنا دائماً في قراءتنا للقيادة اليمينية وخط سيرها، أم أن تفاوت اجتهاداتنا الداخلية قد أضعفت قراءتنا العلمية وصوابية تحليلنا، فكنا نعارض وننقد ولا نلبث أن نخفف وتيرة النقد ونتحد تحت لواء القيادة اليمينية، هذا يتطلب مراجعة وتقييم. وأكبر مثال هو ما يجري الآن حيث خيار القيادة اليمينية الواضح وارتهانها الواضح، ومع ذلك تم ويتم، في بعض الأحيان، ممارسة تكتيكات خاطئة، باعتقادي تساهم في إضعاف صدقية موقفنا.
المفصل الثالث: ترابط العمل الوطني الفلسطيني مع العمل القومي العربي، والذي يعكس رؤية الجبهة لخصوصية الصراع وموازين القوى وللبعد القومي كحاضنة للبعد الوطني، أما الصيغة التنظيمية لهذا الترابط فقد شهدت حراكاً دائماً امتد على مساحة التجربة النضالية (حركة القوميين العرب، حزب العمل، التفكير في جبهات قومية متعددة).
لقد كان هذا المفصل حاضراً باستقرار في رؤية القيادة والكادر والقاعدة، وهو مفصل ميّز باستمرار برامج وسياسات الجبهة ومواقفها، دون أن يعني ذلك عدم ظهور أو وجود أخطاء وتقصيرات عديدة رافقت هذه المسيرة في تجاربها ومحطاتها المختلفة، وخاصة على مستوى الممارسة العملية التي لم ترتق إجمالاً إلى مستوى استحقاقات عملية الربط ما بين البعدين الوطني والقومي، من هنا فإن أحد أهم أسباب الهزيمة التي يعيشها شعبنا الفلسطيني الآن يكمن في عدم الإمساك الصحيح بهذه المعادلة الأساسية في علاقة الوطني بالقومي، الأمر الذي توج في أوسلو بفصل القضية الفلسطينية عن عمقها القومي العربي. حريّ هنا إبراز خلل كبير يتمثل في طغيان الطابع الفلسطيني على عملنا في العقدين الأخيرين إلى درجة عدم إنفاق جهد يتوازى مع أهمية الخط القومي الشعبي، فيما نلمس بجلاء تعذر انتصارنا دون عمل عربي شعبي، في الوقت الذي كان يتوجب فيه أن لا نكف عن الحوار والتنسيق مع كل التيارات التي تشاركنا الهم والهدف القوميين.
المفصل الرابع: البعد الدولي، حيث سعت الجبهة نظرياً وعملياً لحشد أوسع إطار دولي لنصرة القضية الفلسطينية إلى جانب بعديها الفلسطيني والعربي، ونلك إدراكاً منها لحجم معسكر العدو وما يملكه من إمكانات. هذا الخط كان يعكس أيضاً رؤيتها لوحدة معسكر الثورة على المستوى العالمي، ونتيجة لهذا الخط شكلت الجبهة وعلى مدار سنوات عنواناً جاذباً حيث التحق بها المناضلون من مختلف الجنسيات والبلدان. لقد كانت مدرسة ثورية استطاعت إقامة شبكة علاقات تحالفية واسعة النطاق، تتبادل العون والمساعدة مع حركات التحرر والقوى التقدمية والديمقراطية على المستوى العالمي.
علينا أن لا ننسى تلك الأعوام والتجارب المجيدة من تاريخ الجبهة، إنها ذخيرة تمدنا بالعزيمة والإصرار.
واليوم صحيح أن المعسكر الدولي المناصر لقضيتنا قد تعرض لزلزال عنيف ومدمر بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، إلا أن ذلك لا يلغي ولا يمس جوهر هذا الخط، فقوى الثورة والتقدم لا يمكن أن تنتهي مهما كانت قساوة الهزائم والتراجعات، بل وفي عصر العولمة الرأسمالية بقيادة القطبية الأمريكية، حيث السيطرة على السوق الدولية ونهب ثروات بلدان المحيط عبر اتفاقية الجات وخليفتها منظمة التجارة العالمية والمديونية المتسارعة والتبادل اللا متكافئ، المصحوبة بثورة تقنية وهيمنة إعلامية وتفكيك للمشروع القومي والمجتمع المدني، كلها تستدعي تساند وتعاضد القوى والطبقات الشعبية. وهنا يتوجب علينا نقد أنفسنا على إفراطنا في الرهان على الاتحاد السوفيتي السابق والتأثر المبالغ فيه بمدرسته النظرية. ولهذا علينا أن نعيد التأكيد على صحة هذا الخط نظرياً وعملياً، ولكن آخذين بعين الاعتبار حقائق الواقع الجديد وما برز منه من أشكال جديدة للعمل والفعل. والإمكانيات على هذا الصعيد قائمة وموجودة وبإمكاننا أن نخاطب هذه القوى الصديقة بالاستناد لقرارات الشرعية الدولية، بهدف استعادة فاعلية البعد الدولي المساند لقضيتنا في مواجهة حالة التفرد الأمريكي في رسم ووضع المخططات على شعبنا وأمتنا.
هذه هي في تقديرنا أهم العوامل التي جعلت من الجبهة قضية مميزة في تاريخ الشعب الفلسطيني المعاصر، والآن هل فقدت هذه العوامل صحتها وحيويتها؟ وهل بالإمكان استعادة دور الجبهة ومكانتها بدون إعادة تحديد هذه المفاصل الرئيسية التي ميزت خط الجبهة السياسي على مدار سنوات نضالها؟
إنني على قناعة تزداد عمقاً سواء بالمعنى الفكري أو كدروس للتجربة بأن هذه النواظم تشكل معياراً واختباراً في العمق إذا ما أردنا أن تغادر الجبهة دوائر ركودها وتراجعها وأزمتها نحو الفعل والمبادرة والتجدد واستعادة ثقة الحركة الشعبية بها وبمشروعها الوطني والقومي التحرري.
المحور الثالث
المرحلة السياسية الراهنة
إنني أدرك بأن الحديث حول اللحظة السياسية الراهنة متشعب وواسع، ولهذا فإنني سأركز على الجوانب الأساسية.
بطبيعة الحال لا يمكن علمياً تناول الأحداث والمتغيرات السياسية بدون رؤية إطارها الدولي والمتغيرات التي يشهدها العالم ككل وتلقي بظلالها على كافة نواحي الحياة.
هذه المستجدات والظروف التي يمكن تكثيفها بكلمة واحدة: العولمة.
والعولمة مسألة كبيرة تمتد تأثيراتها لتشمل كافة الجوانب والميادين، فهي مفهوم شمولي له أبعاد وتجليات اقتصادية، سياسية، واجتماعية، أيديولوجية وثقافية، والأمثلة على ذلك كثيرة، وقد تضمنتها نظرية نهاية التاريخ لفوكوياما وشهد عليها الانهيار الاقتصادي في دول جنوب شرق آسيا والحصار المفروض على العراق وكوبا وضرب كوسوفو... الخ.
إذن نحن أمام ظاهرة كونية يحاول عبرها الرأسمال العالمي والأمريكي خصوصاً فرض معاييره وقيمه وشروطه على العالم أجمع.
في ظل هذا الوضع يمكن إدراك طبيعة المشروع الأمريكي للتسوية في الشرق الأوسط باعتباره ترجمة خاصة لمفهوم النظام العالمي الجديد، ومفهوم الشرق أوسط الجديد. واختباره الأول إسرائيل- الأردن- مناطق السلطة.
في الذهن أيضاً، أن هذه الكلمة ليست كلمة سياسية شاملة، لأن هذا من مهمات وموضوعات المؤتمر الوطني، ولكن من حقي وواجبي تناول الموضوع السياسي بهدف التأكيد على بعض الجوانب الهامة ارتباطاً بالرؤية السياسية الراهنة.
فما هي أبرز معالم رؤيتي للحظة السياسية الراهنة ارتباطاً باتفاقات أوسلو وانتهاءً باتفاق "واي 2" وشرم الشيخ؟!
إن الساحة الفلسطينية والعربية فيها خندقان واضحان لمن يريد أن يرى ذلك. خندق أمريكا، أي خندق الإمبريالية والصهيونية وإسرائيل، ويؤسفني هنا القول، أن القيادة الرسمية لـ (م. ت. ف) قد انضمت لهذا الخندق بعد اتفاق أوسلو، مع إدراكي ووعيي للتناقضات القائمة بين تلك القيادة الرسمية وإسرائيل، ولكنها تناقضات أخذت شكل التعارضات الثانوية، التي يمكن حلها والتعامل معها تحت السقف والرعاية الأمريكية. وما يزيد الأمر سوءاً أن الاختلال في رؤية حقيقة قوى هذا المعسكر المعادي أصبح سائداً عند العديد من القوى والأفراد، الأمر الذي يشوّه قراءة التناقضات وإدارة الصراع، ويخلق وعياً مزيفاً ووهماً عاماً بأن الصراع قد انتهى أو أنه على طريق الانتهاء. هذا ما نجد تعبيره في مفردات الخطاب السياسي السائد والمهيمن: (حل النزاع، العملية السلمية، التطبيع، التعايش، إن إسرائيل أصبحت حقيقة نهائية في المنطقة، المصالح المشتركة... الخ).
في ضوء كل هذا، وفي ضوء حقائق الواقع، وطبيعة الأهداف الأمريكية الإسرائيلية، هل هذا صحيح؟ هل تغير فعلاً مشروع الحركة الصهيونية من حيث الجوهر، أم أن الذي تغير هو من تخلى عن أهداف شعبه وأمته عبر الرضوخ والقبول بمعادلات القوة والانصياع لإرادة الحلف المعادي؟
يقابل ذلك الخندق الذي يعبر عن مصالح وأهداف الجماهير الفلسطينية والعربية، خندق الصمود والمقاومة، خندق قوى الثورة التي تواصل طريق الحرية والاستقلال لتحقيق أهدافنا العادلة. الخندق الذي يسعى لتحقيق مصلحة كل طبقات الشعب الفلسطيني، الخندق الذي يعرف حقيقة إسرائيل والصهيونية وحقه في النضال المستمر حتى دحر الصهيونية بالكامل.
الخندق الذي يؤمن بأن الدولة وتقرير المصير والعودة أهدافاً مرحلية وليس نهاية المطاف أو الصراع، وبالتالي فإنه يواصل النضال لتحقيق الدولة الديمقراطية العلمانية، الخندق الذي تؤمن قواه السياسية والاجتماعية بضرورة أن تكون هذه الدولة العلمانية جزء من مشروع إقامة المجتمع العربي الجديد، الخندق الذي يقدم حلاً إنسانياً وديمقراطياً للمسألة اليهودية.
صحيح أن هذا الخندق يمر في هذه المرحلة بحالة من الضعف والارتباك، ولكن هذا الحال مؤقت كون شعبنا الفلسطيني وجماهير أمتنا العربية تموج بالتناقضات ولن يستطيع أحد خداع أو السيطرة على كل هذه الملايين للأبد.
هذا الخندق بكل ما له وما عليه يجب أن يكون خندقنا كجبهة شعبية، رغم أنني أدرك جملة الصعوبات التي تعاني منها الجبهة وتعترض مسيرتها، وأعتقد أن مهمة المؤتمر الوطني أن يعيد التأكيد على موقع الجبهة في هذا الخندق وأن يرسم شروط استعادة الجبهة لدورها المبادر والفعال على هذا الصعيد.
بعد هذا التأكيد لنحاول الآن استقراء المخطط المرسوم من قبل معسكر العدو (أمريكا وإسرائيل) للقضية الفلسطينية بهدف تصفيتها.
يدرك الحلف المعادي حقائق الواقع ويدرك حجم وعمق حالة الاختلال التي يعيشها العالم والمنطقة في المرحلة الراهنة، كما يدرك تهافت القيادة الرسمية الحالية لتحقيق أية منجزات في ظل قيادتها ومهما كان الثمن وخاصة تحقيق شظايا دولة اسمية وهمية مع بعض الشكليات (حرس شرف، بساط أحمر، أجهزة أمن الرئاسة..)، المهم أن تؤمن مصالحها في الهيمنة الاقتصادية كوكلاء للاحتكارات الأمريكية والإسرائيلية، إنها تسعى بسرعة لبلورة مصالح الطبقة البرجوازية الكومبرادورية وضمان مكانة متواضعة لها في خارطة الأخطبوط الرأسمالي العالمي كخادم وسمسار له. ولهذا فليس من مصالحها الآن الصراع مع معسكر الأعداء.
تدرك إسرائيل وأمريكا هذه الحقائق كلها، وبالتالي يقولون لتلك القيادة حسناً فليكن هناك دولة! هذا نظرياً، أما عملياً فما يحدث هو إعادة انتشار على جزء بسيط من مساحة الضفة وغزة مقطعة الأوصال ودون سوق موحدة مع استمرار قضم الأراضي الفلسطينية.
ولكن عن أية دولة يتحدثون؟
هنا تبرز ثلاث قضايا كبرى يجب أن ندقق بها:
- هذه الدولة ستكون دولة مقابل التنازل عن أجزاء واسعة من الضفة وغزة بما في ذلك القدس.
- هذه الدولة ستكون مقابل التخلي عن حقوق أربعة ملايين لاجئ فلسطيني في الشتات.
- هذه الدولة ستكون في الواقع بلا سيادة، إنها دولة كاريكاتورية بمعنى أنها لا تملك السيادة على الحدود فعلياً، ولا تملك الحق في استثمار مواردها الطبيعية وخاصة المياه، ولا تملك الحق في تعزيز قواها الدفاعية، ولا يحق لها إقامة أحلاف لا توافق عليها إسرائيل، وأيضاً أن لا يمس قيام هذه الدولة جوهر المشاريع الاستيطانية الصهيونية. وبالتالي قطع الطريق على مشروع الدولة بمقوماتها السيادية والتنموية وروابطها العربية. إنها مجرد معازل ملحقة بالاقتصاد الإسرائيلي وجسر للسلع والثقافة الإسرائيليين.
أي أنها دولة بلا المكونات والمضامين التي تعطي للدولة جوهرها كدولة وطنية مستقلة حقيقية.
والأمور هنا لا تقررها النوايا الحسنة أو براعة المفاوضين أو الألاعيب والمناورات الساذجة. إن حسم هذه القضايا مرتبط بميزان القوى، وقد رأينا ومنذ مؤتمر مدريد عام 1990 وحتى اليوم كيف أن مجمل عملية المفاوضات تقوم بالأساس على أرضية مختلة لصالح إسرائيل، حيث تمكنت وبإسناد أمريكي كامل من فرض مرجعية قوتها كأساس للمفاوضات بعد أن رفضت الالتزام بالشرعية الدولية.
هذا هو واقع الحال بدون رتوش وألوان زاهية، وفي هذا السياق فإنني أعرف تماماً مختلف المناورات التي سيطلقها عرفات لتمويه هذه الحقائق المرّة والترويج لخياره السياسي باعتباره الممر الإجباري الوحيد، وبأنه خطوة تمهد لخطوات لاحقة هدفها النهائي التمسك بحقوق الشعب الفلسطيني.
إنني أدرك إمكانية المساومة في لحظة ما، ولكن من يخوض في غمار المساومة بقناعة وبرنامج وطني، يجب عليه أن يؤمن باستمرار ويعزز دائماً عناصر قوته، ولكنني أعرف، وخندق الثورة يعرف، أن إقامة الدولة وفق السياق الذي أتيت على ذكره جاء لتمرير الصفقة، ويشكل غطاءً لها.
ذلك أن مجرد الالتحاق بأوسلو وإلغاء الميثاق وتجويف (م. ت. ف) وما توالد من أجواء إحباطية وتشكيك بجدوى النضال وفقدان اليقين وقوة المثال ومحاولة ضرب الذاكرة التاريخية، واستعداد فصائل العمل الوطني الفلسطيني من قوى وشخصيات وجماهير، وضرب التنسيق العربي الرسمي في مدريد، والقبول بمرجعية القوة، والرعاية الأمريكية، هو في جوهره تخلي وضرب للبرنامج الوطني وخذلان للحركة الشعبية وأهدافها الوطنية. الأمر الذي لا يمكن تفسيره إلا بأنه انتقال للخندق الآخر. وإلا كيف نفهم كل هذا التراجع والتنسيق والتشارك السياسي- الاقتصادي- الأمني مع الاحتلال.
أنا أعرف كل هذه الظروف والملابسات والتفاصيل ومحاولات التبرير، ولكنني في نفس الوقت أعرف وأدرك النتائج العملية لما يجري، كما يدرك ذلك كثيرون غيري، وخاصة السواد الأعظم من أبناء شعبنا الفلسطيني في الوطن والشتات الذين باتوا يلمسون حجم الخسائر وحجم التنازلات التي طالت عمق مشروعهم الوطني التحرري. وعليه يتعين تحديد موقف سياسي صريح وصحيح حيال القيادة اليمينية يقوم على قاعدة الافتراق السياسي والابتعاد عن التذيل لها أو السماح لها باحتواء الموقف الآخر تحت أية ذرائع. مع استبقاء الباب مفتوحاً لأية تقاطعات ميدانية ونضالات مشتركة يجري توظيفها فعلاً بما يخدم المشروع التحرري بعيداً عن المسار التسووي ونهج السلطة وتكتيكاتها. وفي ذات الوقت الاستمرار بالتحريض الشعبي وتعبئة الجماهير لمواصلة المشروع التحرري، فهدف التسوية الجارية تثمير الأهداف الوطنية الفلسطينية لا تحقيقها.
كما يجب رؤية المتغيرات الجارية نحو فرض الشرق أوسطية بإقامة العلاقات القائمة على نهب الثروات وفرض التبعية، خاصة بين إسرائيل بإمكاناتها السياسية- الاقتصادية- التكنولوجية، وبين الأردن ومناطق السلطة الفلسطينية، حيث تتطلع الأولى لمزيد من النهب والتوسع وشراء أسهم الشركات وتصدير سلع تكنولوجية. ناهيكم عن إتمام التطبيع الاستسلامي الذي يرى في إسرائيل جاراً طيباً وفي أمريكا صديقاً للعرب، وفي التوسعية الإسرائيلية علاقات تجارية... الخ.
الأمر الذي يقتضي منا بناء وتوحيد أداتها التنظيمية - السياسية والارتقاء بها للمستوى الذي يمكنها من أن تكون قادرة على ترجمة هذه الشعارات السياسية.

المحور الرابع
منظمة التحرير الفلسطينية
قد يتساءل البعض لماذا أتطرق لهذا الموضوع الآن، في الوقت الذي توجد فيه العديد من المواضيع والعناوين الجديرة بالنقاش والحوار؟!
والجواب، لأن لهذا الموضوع خصوصية ترتبط بموقف الجبهة باعتباره أحد المحطات والعناوين الرئيسية للتفاعل وتصارع الآراء داخل الجبهة وفي الساحتين العربية والفلسطينية.
إنه عنوان تفاعل وتعارض وصراع كونه مثل وعلى مدار عقود طويلة عنوان النضال الوطني الفلسطيني، عنوان برامجه المشتركة التي تجمع عليها جميع فصائل العمل الوطني الفلسطيني.
إن طرح عنوان (م. ت. ف) الآن بات أمراً ملحاً في ضوء التحولات والأحداث التي طرأت على هذا العنوان وأصابته في العمق، الأمر الذي بات يطرح أسئلة جدية عديدة، سواء من قبل فصائل العمل الوطني، أو من قبل الأوساط الشعبية الفلسطينية في داخل الوطن وخارجه.
فهل (م. ت. ف) اليوم هي نفس (م. ت. ف) قبل عشر سنوات؟
وهل برنامجها هو ذاته؟ وماذا بالنسبة لميثاقها الوطني، وماذا بالنسبة لبنيتها التنظيمية وخطها الكفاحي ونظرتها للعدو ودورها... إلى آخر ما هنالك من أسئلة وتساؤلات؟
يشير واقع الحال في الساحة الفلسطينية إلى تناقضات وخلافات جدية حول المنظمة، فحركة حماس على سبيل المثال يفترق موقفها بصورة جذرية حيث ترفض الاعتراف بالمنظمة وتعتبر برنامجها السياسي كبديل كامل لها، وهناك بعض الفصائل الفلسطينية مستعدة للبحث في بدائل أخرى أو الإعلان عن نفسها بأنها هي التي تمثل (م. ت. ف)، والقيادة الرسمية تريد من جانبها المنظمة وتتمسك بها لتمرير وتغطية خياراتها السياسية مستفيدة من تراث (م. ت. ف) التاريخي وما تحظى به من شرعية وطنية وعربية ودولية، ولكن هذا مشروط بشطب ميثاق المنظمة، والتخلي عن برنامجها الوطني التحرري الجامع وضرب الوحدة الوطنية الحقيقية، واستبدال خطها الكفاحي بخط تفاوضي استسلامي تدميري لوحدة الشعب وأهدافه الاستقلالية وتحويلها من أداة تعبئة ثورية إلى وسيلة استخدامية لتزكية الاتفاقات والاستحقاقات التسووية.
باختصار مصادرة (م. ت. ف) كعنوان بعد تفريغها من مضمونها ومحتواها الوطني، الأمر الذي يعني أن المنظمة لا تعود معبرة في الواقع عن مصالح وأهداف وحقوق الشعب الفلسطيني ووحدته في مختلف أماكن تواجده.
كلنا يعلم أن (م. ت. ف) أنشأت في العام 1964، أي قبل الثورة المعاصرة وبقرار من جامعة الدول العربية. وكلنا يعرف أيضاً ماهية جامعة الدول العربية وما تمثله في أذهاننا وأنه لا مجال للمراهنة عليها جدياً.
غير أن هناك عاملين رئيسيين ميزا موقف حركة القوميين العرب تجاه (م. ت. ف) في ذلك الوقت، وهما:
العامل الأول: وهو الأهم، أن المخطط الصهيوني كان واضحاً بأهدافه المعلن منها والمستتر، وجوهره رفض الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني، والطمس الكامل لهويته الوطنية وكيانيته السياسية، والكل يذكر عبارة غولدا مائير الشهيرة "أين هو الشعب الفلسطيني؟"، بل وحتى يومنا هذا لا تزال إسرائيل تستخدم عبارات من نوع: "سكان المناطق، سكان يهودا والسامرة، عرب إسرائيل، الأقلية العربية..." في وصف شعبنا الصامد سواء في الضفة والقطاع أو أبناء شعبنا البطل الصامد على أرضه داخل المناطق المحتلة عام 48، من هنا كانت ضرورة وأهمية إبراز وجود الشعب الفلسطيني وهويته الوطنية والقومية وعلى كافة الصعد، وهذا العنوان شكل ميدان صراع حقيقي في مواجهة سياسات الطمس والتهويد والتذويب الصهيونية.
بالطبع كل هدا لا يلغي إدراكنا ووعينا لاتفاق سايكس بيكو وأهدافه الاستعمارية وتقسيمه للوطن العربي والذي لا تزال نتائجه ومفاعيله ظاهرة حتى اليوم وأبرز تجلياتها حالة التمزق القطرية للوطن العربي.
بالرغم من ذلك، فإن المشروع الصهيوني كان الحلقة والعنوان الأبرز ورأس حربة المشروع الإمبريالي.
ونحن في حركة القوميين العرب كنا دائماً دعاة وحدة وضد التجزئة القطرية، ولكن طبيعة وأهداف المخطط الصهيوني أبرزت أهمية الحفاظ على الهوية والكيانية الخاصة بالشعب الفلسطيني. من هنا اتخذ الدفاع عن هذه الهوية عمقاً وطنياً ومعنى قومياً وبعداً تقدمياً نضالياً.
العامل الثاني: إن اقتراح تشكيل (م. ت. ف) جاء من قبل الزعيم القومي جمال عبد الناصر، وكلنا يعلم أن حركة القوميين العرب كانت في تحالف مع عبد الناصر في تلك الأيام، يسند ذلك ثقتها بنواياه الوطنية والقومية.
بعد هزيمة عام 1967، وبعد انطلاق فصائل المقاومة الفلسطينية أصبح دور (م. ت. ف) أكثر من مجرد تعبير سياسي أو جبهة وطنية تحت سقف السياسة الرسمية العربية، لقد أنضجت العملية النضالية والنهوض الشعبي الفلسطيني هدفاً آخر لا يقل أهمية عن الكيانية، لقد أصبح لها أهداف نضالية وطنية عملية تمثلت بتجميع وتحشيد الطاقات والقوى الوطنية والتقدمية والثورية التي نهضت من رماد هزيمة عام 1967 كتعبير عن إرادة المقاومة تحت راية (م. ت. ف)، وكانت الجبهة وفي ظل وعيها وانشدادها للتجارب الثورية العالمية وخاصة التجربة الفيتنامية مشدودة لفكرة الجبهة الوطنية الواسعة ذات البرنامج النضالي والتحرري.
من هنا برزت أهمية الوحدة الوطنية، وبالتالي لم تعد المنظمة تعبر فقط عن الكيانية والهوية للشعب الفلسطيني، لقد باتت المنظمة تعبر أيضاً عن وحدة وطاقات كل الشعب الفلسطيني، وعن الثنائية المترابطة عضوياً بين الكيانية والوحدة الوطنية الحقيقية، لقد أصبحت في الواقع تشكل مرجعية سياسية وبرنامجية وكفاحية مباشرة للشعب الفلسطيني، وبما يتجاوز سقف السياسة الرسمية العربية، بل في الحقيقة الصدام والاشتباك معها، لقد كانت بكلمات مختصرة تتطور وتتقدم بصورة منسجمة مع تنامي الحركة الشعبية الفلسطينية وتطور وفاعلية فصائل المقاومة الفلسطينية بعد ذلك. وخلال المسيرة النضالية الطويلة لـ(م. ت. ف) وما رافقها من تطورات سياسية، ومع ترسخ هيمنة القيادة الفردية والتشكيلات البيروقراطية ذات الامتيازات، الأمر الذي أوصلنا للوضع الذي مهّد لهذه القيادة الانخراط في أوسلو وملحقاته، بما نتج عنها من دمار على كل الصعد، ومع هذا الانحراف للقيادة الرسمية عن برنامج الإجماع الوطني، برزت الهوة والتمايز بين المنظمة وقيادتها.
لذلك كان من واجب قيادة الجبهة أن تقف أمام هذا الواقع للمنظمة على أساس رؤية واضحة ترتكز على:
- المنظمة كيان مجسّد لوحدة وهوية الشعب الفلسطيني،
- التمسك والتأكيد على ميثاق وبرنامج (م. ت. ف) الوطني التحرري الأمر الذي يحدد دورها ووظيفتها ومكانتها الوطنية،
- هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى مواجهة قيادة (م. ت. ف) الرسمية والتصدي لانحرافاتها ومقاومة سياساتها التي استهدفت تفريغ (م. ت. ف) من مضامينها وبرامجها وحولتها إلى عنوان وغطاء لتمرير خياراتها السياسية.
وتأسيساً على هذه الرؤية الأساس، بنت الجبهة موقفها المركب من (م. ت. ف) ومؤسساتها. ففي الوقت الذي كنا، وما زلنا، نؤيد وبقوة (م. ت. ف) ككيان وعنوان وهوية للشعب الفلسطيني، عبر الانخراط والتواجد الدائم، في المجلس الوطني الفلسطيني ومؤسسات أخرى، كنا نميز بين هذا الموقف وبين الموقف من قيادتها، والتي كان الموقف منها يتحدد على أساس سياسي، وعلى أساس تمسكها واقترابها و/أو ابتعادها عن برنامج وميثاق المنظمة. هذا الموقف الذي كان يتجسد بالمشاركة أو عدمها في اللجنة التنفيذية للمنظمة. فعندما كنا نرى ونلمس أن القيادة المهيمنة والفردية تسير بالثورة نحو الانحراف، كنا نقف ونمارس هذا الموقف الجدلي المركب. ودعوني هنا أقول بصراحة إنني كنت، وما زلت، قانعاً بهذه الأسس وبهذه المقاربة لموقفنا من المنظمة ومؤسساتها. هذه القناعة التي تزداد عندي رسوخاً كلما سمعت عن تأييد غالبية من الجماهير الفلسطينية بكل أماكن تواجدها لهذه المواقف.
ولعل هذه النظرة وهذا الموقف تجلى أكثر ما تجلى في ثالث محطات رئيسية:
* المحطة الأول: كانت بعد إعلان برنامج النقاط العشرة، والذي على أثره شكلت الجبهة (جبهة الرفض).
* المحطة الثانية: تمثلت في الانحراف الكبير الذي هدد وحدة (م. ت. ف) عبر مجلس عمان وما نتج عنه، وكانت الجبهة، كعهدها مبادرة في التصدي للانحراف، وقامت بتشكيل القيادة الموحدة والتحالف الديمقراطي وجبهة الإنقاذ.
من المهم جداً هنا التأكيد على أن الجبهة قد استطاعت في المحطتين المذكورتين تسجيل انتصار سياسي واضح للجميع. هذا الانتصار الذي تمثل في وثيقة طرابلس، حيث تم الربط بين الهدف المرحلي والهدف الاستراتيجي، ومؤتمر الجزائر التوحيدي الذي ألغى نتائج مجلس عمان وأعاد الوحدة للشعب الفلسطيني وحركته الوطنية.
* المحطة الثالثة: وتتمثل في اتفاق أوسلو وملحقاته، وكلي أمل أن نصل إلى نفس النتيجة كما المحطات السابقة، رغم إدراكي للفارق النوعي ما بين الانحراف في المحطتين السابقتين وطبيعة الانحراف في المحطة الثالثة المتمثلة في غوص القيادة الرسمية في مستنقع المحاولات الرامية لتصفية القضية الوطنية، وما طرأ عليها من تحولات طبقية- فكرية- سياسية- معنوية وتخندقها في ذلك المشروع الأمريكي- الإسرائيلي رغم أية أوساط أو شخصيات متذمرة هنا وهناك، آخذين بالحسبان أنها لم تنخرط في تسوية حسب المقاسات الأمريكية- الإسرائيلية فقط، بل وتسوية ممولة غربياً أيضاً تؤمن فاتورة دفع رواتب نحو 125 ألف من موظفي "القطاع الحكومي" الذي يناهز فيه العنصر الأمني بأجهزته المختلفة النصف.
وفي هذه اللحظة السياسية الراهنة، ورغم كل ما جرى ويجري، أتوجه لكم برجاء حار أن تقفوا وتتبصروا وتقرؤوا هذا العنوان بموضوعية وتجرد عاليين، لأنني فعلاً أريد أن أسمع وأن أستنير بآرائكم حول هذا الموضوع، لأن هذا كان أحد الأمور الأساسية التي ميزت الجبهة الشعبية. وهنا اسمحوا لي أن أعيد التأكيد أنني لا زلت أعتقد بأهمية المحافظة على الكيانية الفلسطينية كما نفهمها، وذلك من خلال الحفاظ على المنظمة (الميثاق والبرنامج الوطني)، في مواجهة المخطط الصهيوني، الذي بعد أن اضطر للاعتراف نتيجة للنضالات والتضحيات بأن هناك شعب فلسطيني، ولكنه في ذات الوقت يحاول تثبيت حقيقة أن الشعب الفلسطيني هو ذلك الجزء فقط من شعبنا الموجود في الضفة الفلسطينية وقطاع غزة، مع التمييز الواضح لهذا الموقف عن موقفنا من القيادة الفردية المهيمنة، والتي كما سبق وأشرت في المحور السابق، انخرطت بهذا المخطط التسووي للقضية.
هذه الفكرة تعطي لموقفنا من (م. ت. ف) فهماً نضالياً، أي أن العملية ليست مجرد كلمات وشعارات وإنما عملية صراعية مستمرة تتناغم ورؤيتنا تجاه استمرار الاشتباك التاريخي في مواجهة الاحتلال ومشاريعه السياسية. ولكي نخوض هذا الصراع بطريقة صحيحة وبدون إضاعة الاتجاه، يتعين علينا الانطلاق من رؤية صريحة في انفصالنا عن التسوية وأدواتها وقواها، عن العولمة وذراعها الفلسطينية، عن محاولات احتوائنا وتجييرنا، والتصدي لمحاولات تذويب المنظمة في السلطة، وفي ذات الوقت النضال القاعدي الشعبي في أوساط التجمعات الفلسطينية لإعادة صياغة إرادتها الموحدة دفاعاً عن الوطن، وحق اللاجئين في العودة إلى ديارهم ومنازلهم التي اقتلعوا منها... الخ.

المحور الخامس
لماذا هزمنا؟
سؤال أساسي يطرق جدران واقعنا يمتد في الماضي ليصل الحاضر ويسافر إلى المستقبل. لماذا هزمنا، كجبهة وحركة تحرر وأنظمة وأمة، رغم كل التضحيات والآلام والمعاناة؟!
ورغم أهمية السؤال، الأمر الذي يعني الاستعداد للنقد ومراجعة الذات وإعادة قراءة التاريخ، إلا أن ذلك لا يوفر إلا نصف الطريق والنصف الآخر يجب أن تعبده محاولات الإجابة على السؤال.
وهذه العملية لا يتصور أحد أنها عملية سهلة وميكانيكية، إنها عملية مركبة وجدلية الأبعاد، وتحف بها الصعوبات والمخاطر من كل جانب، فالسؤال بحد ذاته يفتح الدوائر على السياسة، الاقتصاد، التنظيم، كما يفتحها على علاقة كل ذلك بحركة المجتمع الشمولية، ويعود ليناقش جدلية الفكر والرؤية والممارسة.
من هنا تصبح الإجابة عملية فكرية لها عمقها الاجتماعي والعملي، وليست مجرد صياغات أو ترف فكري مجرد.
هذا من جانب ومن جانب آخر ضرورة ارتباط عملية الإجابة بالأهداف والمهام والطموحات الوطنية وإلا من السهل سقوطها لتتحول إلى مجرد نوبان في تيار الواقع الجارف والتماهي معه. ولكن في نفس الوقت من الضروري بقاء هذه العملية مرتبطة بمعطيات الواقع وإلا تحولت إلى عملية إنزال وطوباوية خيالية.
في ضوء ذلك تتخذ الإجابة أبعادها الثلاثة أفقياً وعمودياً وفي العمق. إنها تصبح تجسيداً لتفاعل الفكر مع الواقع وكلاهما مع الممارسة الاجتماعية، سواء على مستوى حركة المجتمع أو على مستوى حركة الأحزاب.
بهذا المعنى فإن الإجابة وبقدر ما قد يساهم بها فرد أو أفراد، في ذات الوقت ليست مهمة فردية، أو مهمة تنظيم لوحده، أو مهمة الجبهة لوحدها، بل إنها مهمة فلسطينية- عربية، بل وفي جزء منها مهمة القوى التحررية والتقدمية العالمية.
إنها مهمة للجميع، وهي مهمة تراكمية متواصلة بقدر ما تجيب على بعض أسئلة الواقع بقدر ما تتفتح أمامها أسئلة جديدة، وتغنيها الممارسة برؤى ودروس جديدة. لهذا علينا أن نستحث عقولنا للإسهام في هذه العملية الجدلية الفكرية الاجتماعية المتواصلة. ذلك لأن تحديد أسباب الهزيمة هو خطوة ابتدائية على طريق الانتقال لدوائر تحقيق الإنجازات وتخطي دوائر الفشل والاقتراب من الانتصار.
وهنا أرى ضرورة الإشارة إلى الأهمية الخاصة لدور المفكرين بشكل أو بآخر، فقد آن الأوان للعقل العربي والفلسطيني لممارسة دوره بالشكل المطلوب، وهذا لن يتحقق إلا إذا أصبح هذا العقل جزء من حركة الواقع السياسي- الاجتماعي.
وشخصياً، وبعد هذه التجربة النضالية الطويلة، أحاول بدوري، ومن خلال التفكير العميق المساهمة في محاولات الإجابة على هذا السؤال المحوري.
وفي ذات السياق يهمني تسجيل النقاط التالية:
1- القيام بمراجعة مائة عام من النضال، وبشكل خاص الخمسين عاماً الماضية وقد سبق وأن تناولت هذا الموضوع في مجلة الهدف عبر مقالين:
- الأول: يحاول الإجابة على ماهية المراجعة المطلوبة وكيف نقوم بها.
- والثاني: تناول الأخطاء الأساسية التي رافقت تجارب حركة التحرر العربي والثورة الفلسطينية من جهة، والأنظمة الوطنية من جهة أخرى.
2- محاولة إنشاء مركز للدراسات، في حال توفرت الإمكانات كاملة، وتكمن قيمة هكذا مركز في ما سيشكله من استقطاب لبعض العقول العربية والفلسطينية المهتمة بقضايا أمتها، وفي القلب منها القضية الفلسطينية، وليشكل المركز بكفاءاته وأنشطته وأعماله تواصلاً مع فصائل حركة التحرر الفلسطينية والعربية، وبالتأكيد مع الجبهة الشعبية.
وحسب رؤيتي وتفكيري فإن هذا المركز سيقوم بتقديم كافة انتاجاته الفكرية لهذه الفصائل والأحزاب، علها تساعد في عملية اتخاذ القرارات والمواقف السليمة. وفي هذا الإطار حاولت نواة المركز منذ فترة إقامة ندوة خاصة في مصر لمعالجة هذا العنوان "لماذا هزمنا؟"، إلا أنها لم تنجح في عقدها هناك. ونأمل أن تشكل الندوة والدراسات المقدمة وما سينتج عنها مساهمة في محاولات الإجابة عن هذا السؤال الهام جداً. والدراسات التي أعدت حول هذا الموضوع جاهزة، وسنقوم بنشرها سواء نجحنا في عقد الندوة أم لا.
ولهذا فإنني آمل بأن أتمكن من وضع اللبنة الأولى لهذا المركز، وبعد ذلك فإن استمرارية هذا المشروع وهذا الجهد منوط بالمؤمنين بهذه الفكرة من فلسطينيين وعرب، وبالأجيال القادمة.
المهم من واجبنا أن نستخدم كافة الأسلحة وعلى رأسها سلاح العقل والفكر حتى نستطيع أن نحقق النصر، ويجب علينا أن ننتصر لأن قضيتنا عادلة.
المحور السادس
قضايا أخرى
* موضوع المرأة:
كان للمرأة الفلسطينية وعبر مسيرة النضال الطويلة دوراً رائداً ومشرقاً، فهي الأم والشقيقة والزوجة والرفيقة، حملت السلاح وقاتلت، وفي كثير من الأحيان شكلت نموذجاً تجاوزت فيه الرجل.
ويحضرني الآن تلك الصورة التي مثلتها المرأة الفلسطينية في الانتفاضة الفلسطينية الباسلة في الوطن المحتل. لقد أطلقت الانتفاضة إبداع المرأة وطاقاتها الكامنة والمقهورة فإذا بها قوة هائلة، تندفع في ميدان النضال لتضرب أمثلة أسطورية في المقاومة والصمود والإنتاج والصبر والعطاء والاستشهاد.
والآن ورغم كل ذلك فإن المرأة الفلسطينية تتعرض لأشكال عدة من الاضطهاد، اضطهاد وطني وقومي، اضطهاد طبقي واضطهاد اجتماعي ذكوري.
فماذا فعلنا دفاعاً عن قضية المرأة وحقوقها وحريتها؟
نظرياً قلنا الكثير ولكن في الواقع كانت هناك هوة شاسعة بالمعنى العام بين ما نقوله وبين ممارستنا العملية، وكلنا سمعنا أو نعرف قصصاً مؤسفة في التعامل مع المرأة في أوساطنا.
تحرير المرأة وإطلاق طاقاتها هي بالأساس عملية تاريخية اقتصادية اجتماعية، ولا تتم هكذا بمجرد الوعظ، إنها في الواقع عملية نضالية حتى النهاية، إنها مرتبطة بتطور البنى الاجتماعية وتطور العمل الإنتاجي، ولكن ماذا فعلنا نحن الذين نسمي أنفسنا طلائع تقدمية ويسارية، هل استطعنا أن نقدم نموذجاً أرقى في ممارستنا الاجتماعية اليومية، هل استطعنا أن نحرر ذاتنا من دور السادة الذي نمارسه ضد المرأة؟!
كيف نستطيع أن نحقق تقدماً جدياً وأن نقترب من تحقيق أهدافنا الوطنية في ظل استعباد وخمول نصف طاقات شعبنا؟!
لا أريد أن استعرض هنا تجارب الشعوب والثورات التي انتصرت، وكيف تعاملت مع موضوع المرأة، ويكفي أن نتذكر التجربة الكوبية الرائدة على هذا الصعيد.
هذا موضوع كبير وتحدي حقيقي، بل يشكل معياراً على مصداقية برامجنا ورؤيتنا الاجتماعية، وأي إخفاق هنا هو دليل على إخفاق وأزمة بنيوية في رؤيتنا وأدائنا.
* موضوع الشباب:
الشباب جيل المستقبل، جيل النصر، وكما تؤكد الإحصاءات فإن أكثر من نصف مجتمعنا هو من الشباب.
إن التعامل مع قضية الشباب تؤشر إلى جدية رؤيتنا للمستقبل، إنها تعبير عن الاستمرارية والتواصل وإلا فالركود والتلاشي.
موضوع الشباب أيضاً تحدي كبير أمامنا، فهم الخميرة وهم طاقة جبارة تمتاز بالحيوية والحماسة، ولنتذكر هنا الأمثلة التالية:
- دور الجيل الشاب بل والأطفال في الانتفاضة،
- لنتذكر دور الحركة الطلابية (الاتحاد العام لطلبة فلسطين) والحركة الطلابية في الوطن المحتل لقد كانت باستمرار عنصر تسخين وشرارة مواجهة باستمرار.
- لنتذكر دور الحركات الطلابية والشبابية في أعوام الستينات في أوروبا حيث غيرت في وجهة حركة المجتمعات آنذاك.
إذن موضوع الشباب يشكل ميداناً آخر لاختبار برامجنا وأدواتنا وأدائنا، هل نستطيع تلبية احتياجات هذا القطاع الحيوي يا ترى؟
والآن لننظر إلى واقعنا في الجبهة، ونحاول استعراض حجم العنصر الشاب في عضويتنا ومدى انعكاس هذه العضوية في هيئاتنا القيادية، فماذا نرى؟
عليكم أيها الرفاق والرفيقات أن لا تسمحوا للحزب أن يشيخ أبداً، لأن ذلك يعني في الواقع الموت والنهاية. عليكم أن لا تدعوا اليأس يتسرب إلى الجيل الشاب أبداً، إذا أردنا فعلاً أن نؤمن شروط الانتصار القادم.
يعكس الموضوعان السابقان فكرة أشمل وهي رؤيتنا الاجتماعية والتي لا تقف حدودها عند موضوع المرأة والشباب، بل إنها تمتد لتشمل مساحة المجتمع بكامله بما فيها العمال، العملية التعليمية، المطالب الديمقراطية، الرؤية التنموية، حقوق المهنيين والفلاحين، حقوق الإنسان وحرية التعبير، خاصة في ظل العولمة والتي أشرت لها في ما سبق من الكلام.
إن التعامل مع هذه المفاصل وسواها العشرات هو الذي يعكس دينامية وإبداع الجبهة وقدرتها على تجديد برامجها وبناها وأدائها. وقد بات هذا الموضوع يحتل مكاناً هاماً حيث تتزايد حالة التذمر والنقد في الأوساط الشعبية، ويزداد نقدها ورفضها لنموذج السلطة من حيث مضمون برامجها ومر حيث أدائها.
علينا أن نمتلك الجرأة لنتقدم هنا ونكون جزءاً فاعلا ومبادراً في حركة التمرد والرفض الاجتماعية لكل ما من شأنه المساس بمصالح وحقوق الطبقات والفئات والشرائح الشعبية، الأمر الذي يبرهن على جدلية فهمنا لفكرنا التقدمي.
* أهمية الموضوع المالي:
تعلمون أيها الرفاق أننا واجهنا خلال عقد التسعينات، ولا زلنا، أزمة مالية صعبة وحادة، ليست هي الأولى في تاريخ الجبهة، ولكنها هذه المرة كانت طويلة واستثنائية، تركت آثارها السلبية والعميقة على مختلف مناحي حياتنا وعملنا كحزب، وشلّت إلى حد كبير قدرته على إنجاز مهماتنا وبرامجنا.
وهنا اسمحوا لي أن أسجل اعتزازي وتقديري لصمودكم وتحملكم، رغم قسوة الظروف الاستثنائية التي واجهناها.
بطبيعة الحال، فإن العنوان المالي يحتاج إلى معالجة عميقة، رغم إدراكي لكل المصاعب المحيطة ولكل المحاولات والجهود الجادة التي بذلناها في سبيل توفير الإمكانيات. لكن الحصار المالي، باعتقادي، سيستمر لأسباب سياسية، الأمر الذي يتطلب منا الاعتماد على الذات وتكتيف الجهود من خلال العقل الجماعي للحزب، لوضع حد لهذه الأزمة مستخلصين دروس وعبر تجربتنا السلبية السابقة، ويهمني هنا الإشارة أنني لا أقصد أن يقف المؤتمر الآن ليضع الحلول لهذا العنوان، فهذا من مهمات القيادة الجديدة القادمة.
وكلي أمل في أن تعتبر القيادة القادمة الموضوع المالي على رأس مهماتها، وآمل أن ننجح في إيجاد الحلول الناجعة للخروج من الأزمة، لأن الموضوع المالي وكما أثبتت التجربة له انعكاس واضح على الموقف السياسي.
والآن وأنا أقترب من نهاية كلمتي استذكر شهداء الجبهة وشهداء فلسطين والأمة العربية، أستذكر وديع حداد وغسان كنفاني وجيفارا غزة وشادية أبو غزالة وأبو جهاد الوزير، أستذكر كل الشهداء فرداً فرداً وبلا استثناء، هؤلاء الشهداء الذين لهم علينا حق وواجب الاستمرار في النضال والتمسك بالحلم والأمل وحفظ حقوق الشعب الذي وهبوه دماءهم، ولأبنائهم وأسرهم حق التكريم والرعاية وهذا أقل ما يمكننا عمله تجاه هؤلاء النجوم المتوهجة في سماء الوطن.
وأيضاً أستذكر الآن الأسرى الأبطال في سجون الاحتلال وسجون السلطة، هؤلاء المناضلين الذين يذكروننا صباح مساء بواجبنا الوطني، وبأنهم لا زالوا هناك خلف القضبان، وبأن الاحتلال ما زال جاثماً على صدورنا فلكل أسير باسمه أسمى آيات الاحترام.
الرفيقات والرفاق الأعزاء،
وأنا أنهي عملي ومهامي كأمين عام فإن هذا لا يعني بأنني سأبتعد عنكم، بل سأبقى معكم، ملتصق بكم، وأتابع مسيرتكم.
إن الجبهة قد أعطت الكثير وراكمت الكثير وهي تملك من الطاقات والإمكانات والعقول ما يمكنها من تخطي الصعوبات التي تواجهها لتبقى تنظيماً مقداماً ومتقدماً ومبادراً بقياس برامجها وممارستها في سبيل إحقاق حقوق ومصالح الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده.
لقد أعطيت الجبهة عمري وجهدي سنوات طويلة ويفرحني أن تواصل الجبهة طريقها وتشق سِكتُها حقل الواقع وأن تجدد ذاتها، وأنا أعرف جيداً طينة أعضائها وقيمة وعمق التراث والأخلاق والقيم التي زرعتها الجبهة كل هذه السنين، إنني على ثقة بأنكم لن تفرطوا بهذه الكنوز الوطنية فإن جيل المستقبل الذي سيحمل الراية ويواصل السير للإمام سيتمكن من تحقيق أهدافه، وتأكدوا بأنكم لا تبدؤون من الصفر بل لديكم طاقات وقوى كامنة لا تستهينوا بها، وهنا أحملكم مسؤولية المحافظة على هذا الإرث النضالي الذي سيبقى أمانة في أعناقكم.
والآن، اسمحوا لي أن أوجه التحية لكل الرفاق الذين عملوا معي وساعدوني، سواء في حركة القوميين العرب أو في الجبهة. لقد وقفوا إلى جانبي في أقسى الظروف وأحلك الأوقات، وكانوا عوناً وسنداً كبيرين لي، ولولاهم لما كنت قادراً على أن أقوم بالمهمات المنوطة بي. لقد كانوا رفاقاً حقيقيين، بكل ما تعنيه الكلمة، لقد ساعد هؤلاء الرفاق في توفير جو رفاقي، ومناخاً من التفاعل الفكري والنظري والسياسي مما ترك عميق الأثر على قيامي بمهامي على أكمل وجه. لهؤلاء الرفاق مكانة كبيرة في قلبي وعقلي، ولهم كل الشكر والتقدير، كل منهم باسمه.
كذلك كافة الرفاق الذين سهروا على أمني والحفاظ على سلامتي طوال هذه السنوات، فلهم أيضاً التحية والشكر.
كما اسمحوا لي وانسجاماً مع ما في هذه الكلمة عن المرأة ودورها، اسمحوا لي أن أخص بالذكر السيدة التي رافقتني على مدار ما يقرب من أربعين عاماً، بكل ما تضمنته من أحداث كبيرة وأزمات وأوقات صعبة بصبر كبير وتضحية عالية، وكانت على مستوى المسؤولية، إنها شريكة حياتي ودرب نضالي أم ميساء التي بقيت شامخة وصابرة بروح عالية من التحدي، ولا زالت تقف معي وتمدني بالعزيمة والإصرار بكل وفاء وتفان وإخلاص، فلها مني كل المحبة والتقدير والاحترام.
وككلمة أخيرة، أتوجه إليكم بقولي أني أعرف جيداً أن الأهداف التي عملت وناضلت من أجل تحقيقها لم تتحقق، وأنا لا أستطيع أن أقول كيف ومتى ستتحقق، ولكني في المقابل أعرف على ضوء دراستي العلمية لمسيرة التاريخ بشكل عام، والعربي والفلسطيني بشكل خاص، أنها ستتحقق. ورغم هذه الحقيقة المرّة، إلا إنني أترك مهمتي كأمين عام للجبهة وضميري وفكري مرتاحين. ضميري مرتاح لأنني قمت بواجبي وعملت بأقصى جهد ممكن وبإخلاص عميق وتام. وفكري مرتاح لأنني وخلال سنوات عملي وأثناء أدائي لمهماتي كنت أنطلق من ممارسة النقد الذاتي باستمرار، وهنا يهمني أيضاً أن أقول أنني سأصغي باهتمام بالغ لكافة ملاحظاتكم وتقييماتكم لمسيرة الجبهة الشعبية خلال فترة وجودي كأمين عام لها، وهذا الأمر هام جداً بالنسبة لي، ولكن يهمني التأكيد أنني وبنفس الدرجة من الاهتمام، إن لم أقل باهتمام أكبر، سأكون منشداً ومهتماً لملاحظات وتقييم الجماهير الفلسطينية والعربية لهذه المسيرة ولدوري فيها.
إن هدفي من هذه الكلمة الختامية أن أقول لكم، ليس فقط لكم، بل لكافة المعتقلين أو الذين مروا بتجربة الاعتقال، لعائلات الشهداء، لأبناء الشهداء، للجرحى، لكل من ضحى وقدم من أجل القضية، أن أقول أن تضحياتكم لا يمكن أن تذهب هدراً، لأن الأهداف العادلة والحقوق المشروعة التي ناضلوا وقدموا من أجلها ستتحقق طال الزمن أم قصر. أكرر إنني لا أعرف متى، ولكنها ستتحقق. وهدفي أيضاً وأيضاً أن أشدد على ضرورة استمراركم في النضال من أجل خدمة جماهيرنا، من أجل مصلحة جماهيرنا الفلسطينية والعربية. مصلحة الجماهير التي تكمن في القضية العادلة والمشروعة، كما في تحقيق مصالح كل المظلومين والمقهورين. عليكم أن تكونوا دائماً مطمئني البال ومرتاحي الضمير، مشحوذي الهمم بإرادة صلبة، لأنكم كنتم وما زلتم في معسكر العدالة والتقدم، المعسكر الذي ستتحقق أهدافه العادلة وسينال حقوقه المشروعة حتماً، لأن هذه هي دروس التاريخ والواقع. وما ضاع حق وراءه مناضل.
المجد والخلود للشهداء.. الحرية للأسرى
وعاشت فلسطين
شكراً لكم
رفيقكم
الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
جورج حبش