الأربعاء، 21 سبتمبر 2011

الحكيم : كلمة موجهة إلى المؤتمر الوطني لفلسطيني الأول حول الديمقراطية 29/8/1993


كلمة موجهة إلى المؤتمر الوطني لفلسطيني الأول حول الديمقراطية
29/8/1993

الأخوات والأخوة :
في البداية أتوجه إليكم جميعاً , وإلى كافة أبناء الشعب الفلسطيني المناضل في الوطن المحتل , شعب الانتفاضة, شعب الكفاح والمقاومة , بأسمى آيات الاعتزاز . هذا الشعب الذي يواصل رفع شعلة الحرية والاستقلال , برغم كل الظروف الصعبة والقاسية التي تحيط بنا وبقضيتنا الوطنية , وبالرغم من كل مشاريع التصفية الأمريكية – الصهيونية وما يرافقها من سياسات قمعية منظمة من حصار وقتل وجرح وأبعاد وتدمير واعتقال .
إن مبادرتكم لعقد المؤتمر الفلسطيني الأول حول قضية الديمقراطية , هو دليل على حيوية شعبنا وفاعليته, وتعبير ملموس عن قدرتكم على الإمساك بالحلقات المفصلية في اللحظات الصعبة .
وبدون شك فإن هذه المبادرة – كما يتراءى لي – لم تكن مصادفة أو عفوية , بل هي انعكاس واضح لاستشعاركم ( لهموم والإشكالات والمعضلات والتحديات التي تجابه النضال الوطني , والمجتمع الفلسطيني في هذه المرحلة المحددة بعناصرها , وبسماتها, وبمهامها , ومخاطرها الراهنة والمستقبلية .
كما أن تحديدكم للديمقراطية كحقل للبحث والحوار , وتبادل الآراء , ارتباطاً بالواقع الفلسطيني الملموس , يحمل مضموناً غاية في الأهمية , ويمثل دلالة ذات مغزى عميق, فالديمقراطية كقيمة إنسانية واجتماعية , تمثل منصة انطلاق لا بد منها لأي مجتمع , ولأي قوة سياسية أو لأي حركة ثقافية , أو علمية , أو جماهيرية هدفها التصدي لمعضلات الواقع في شتى الميادين, من أجل بناء مجتمع متماسك وموحد,ليس بفعل الإرهاب والقمع,وإنما كنتيجة لتكامل وتعاضد بناه الاجتماعية والسياسية – والاقتصادية – والثقافية – والروحية , القائمة على الدينامية والنشاط, والإنسان كقيمة أولى أولاً وعاشراً .
مرّ مفهوم الديمقراطية في النظرية والممارسة بمسار تاريخي- اجتماعي يضرب بجذوره عميقاً في تاريخ البشرية, وتعرض لتفسيرات, وتعميق, وتطوير هو انعكاس لتطور المجتمع البشري ذاته, ودائماً في إطار عنصري الزمان والمكان بكل ما لهما وما عليهما, منذ الدولة الأثنية – وربما قبل ذلك - , وحتى الآن . وعليه فالديمقراطية ليست مفهوماً خيالياً مجرداً , كما أن ممارستها ليس إطلاقية بتاتاً, بل إنها في واقع الأمر نسبية, وتعكس باستمرار مستوى التطور الاجتماعي لأي تجمع بشري, مع ملاحظة أن هذا الانعكاس ليس ميكانيكياً البتّة , فبقدر ما أن المجتمعات البشرية تنمو وتتطور بالديمقراطية, فإن الديمقراطية أيضاً تتعمق وتغتني بالممارسة الاجتماعية, وهكذا في سياق عملية اجتماعية- تاريخية متواصلة لا تتوقف .
على هذا الأساس تصبح الممارسة العملة للديمقراطية بقيمها المتنوعة, وبما يشكل كافة مناحي الحياة( السياسية – الاقتصادية – الاجتماعية ...) هي المعيار الحاسم عند تقييم أية تجربة , كما أنها هي المعيار الحاسم الذي يؤشر إلى جدية أي قوة – سياسية أو اجتماعية تتبنى مبدأ الديمقراطية في مواجهتها لاستحقاقات الواقع .
وفي ذات الإطار فالديمقراطية أيضاً وبالإضافة لما تقدم هي عملية شاملة, وأي اجتزاء لها يضعفها ويبهتها, ويفقدها احد عناصرها واغتنائها,بمعنى, أنه لأمر خطير الحديث عن الديمقراطية سياسياً, وتغييبها اجتماعياً,أو اقتصادياً,أو فكرياً, وعليه فالبنية الديمقراطية لأي مجتمع هي كل موحد ومتساند, تشمل العائلة,والمدرسة, والنظام السياسي, الاقتصادي, والثقافي...إلى آخر ما هنالك من ميادين للنشاط الاجتماعي.
على ضوء ما تقدم, فإنه يصبح أمراً ذا قيمة أن يكون لمبادرتكم بعقد هذا المؤتمر ترتيباً وآلية تضمن تواصل هذه المبادرة واستمرارها,وستتضح قيمة هذا الاقتراح وأهميته من خلال الاستخلاصات الأساسية التي سيتمخض عنها مؤتمركم,فبقدر ما ستتضح قيمة هذا الحوار وغناه, بقدر ما سيظهر بأن الموضوع المثار, شديد التعقيد, والتشابك, والتشعب, وستظهر أسئلة وميادين وإشكاليات لم تكن واردة في الحسبان من قبل, الأمر الذي يعني ضرورة الغوص بها أكثر, ويتناول جوانب الديمقراطية من زوايا مختلفة ومتعددة أكثر فأكثر .كما أتمنى على مؤتمركم, والذي بدون شك, سيكون للأوراق والأبحاث والمداخلات التي سيقف أمامها علمية ونظرية أساسية, أن يعطي للممارسة العملية الديمقراطية في الواقع الفلسطيني ما تستحقه من أهمية, وأن تتحلى الحوارات والأبحاث بروح نقدية عميقة حيال هذا الجانب .
والآن اسمحوا لي أن أتناول بعض الجوانب التي أرى من الأهمية بمكان التوقف أمامها, وإمعان الفكر بها, أطرحها عليكم بهدف الحوار والتفاعل, وتبادل الرأي .
يواجه الشعب الفلسطيني وقضيته في الظروف الراهنة تحديات ومخاطر باتت تهدد بتصفية الحقوق الوطنية الفلسطينية , وما حققه الشعب الفلسطيني من إنجازات خلال نضاله الطويل, وذلك عبر المحاولات الجارية لفرض الحكم الإداري الذاتي على شعبنا, كخطوة أولى في مسلسل تصفية الصراع الفلسطيني – الصهيوني , والعربي الصهيوني, وترسيخ مرتكزات المشروع الصهيوني في المنطقة .
وتترافق المشاريع التصفوية المعادية , مع تفجر مظاهر الأمة في الحركة الوطنية الفلسطينية, تلك الأزمة التي تعود في سببها المباشر إلى رضوخ وقبول القيادة المتنفذة في م.ت.ف بالورقة الأمريكية الأخيرة , تلك الورقة التي ضربت وتخطت موضوع القدس, والولاية الجغرافية, وقفزت عن موضوع الاستيطان, أي باختصار الرضوخ للشروط الأمريكية الصهيونية, والاستعداد الواضح من قبل القيادة المتنفذة في م .ت.ف الوطني التحرري,أي حق العودة وتقرير المصير والدولة, بما في ذلك التخلي عن موضوع القدس بكل ما يمثله من معاني ودلالات تاريخية وروحية ووطنية .
وإلى جانب الأزمة في الميدان السياسي تظهر تجليات الأزمة المالية بكل عناصرها وأثقالها, وأيضاً أزمة تنظيمية تطال مؤسسات م.ت.ف وأطرها, سواء لجهة فاعليتها,أو انتظامها أو لجهة كيفية اتخاذ القرار وآليات تنفيذه , حيث تسود الفردانية, والهيمنة الفئوية , مع غياب الفعل والتفكير الجماعي .
وفي ذات الإطار أيضاً يظهر بوضوح عدم الجدية في استثمار إمكانات وطاقات الشعب الفلسطيني وما يتملكه من أوراق قوة, وأولها الانتفاضة بجماهيرها الكفاحية والتنظيمية والاقتصادية التي لا تحظى بالدعم والإسناد المنسجم مع دورها ومكانتها وإنجازاتها في النضال الوطني الفلسطيني, إضافة إلى عدم التوجه الفاعل لتنشيط العمل الكفاحي وبمختلف الأساليب , بالرغم مما يمثله من حلقة محورية أساسية في مواجهة الاحتلال الصهيونية الذي يمارس شتى أنواع العنف والقهر ضد الجماهير الفلسطينية .
إن مظاهر الأزمة ( السياسية – المالية – التنظيمية – الكفاحية ) التي تعصف رياحها في الساحة الفلسطينية في هذه الأيام, وبكل ما ترتب عليها من الأسئلة وإشكالات, ليست عفوية, كما أنها ليست نبتاً شيطانياً وليد اللحظة , وأن تكن الصعوبات الموضوعية الراهنة قد سرّعت من بروزها ,وفاقمت وعمّقت تجلياتها وأبعادها, بمعنى أن الأزمة ما كان لها أن تأخذ هذا المنحى وهذا المستوى من التأثير والفعل السلبي, برغم كل الظروف الموضوعية القاسية والصعبة لو لم تستند هذه الظروف إلى عامل ذاتي, وبنية ذاتية,مرتبكة وهشّة, وغير محصنة, إنها نتاج لنهج سياسي وتنظيمي وإداري,لم يتمكن من تطوير ذلته وبما يتلاءم مع متطلبات النضال الوطني باستمرار عبر مراحله المتعددة. بمعنى عد القدرة على خلق وإيجاد آليات التجديد والتطوير الذاتي باستمرار, والبنية التي لا تستطيع تجديد ذاتها, ومما ينسجم مع تطور الواقع ذاته بعناصره المتعددة,لابد وأن تصل إلى لحظة التناقض بين استحقاقات الواقع الناشئ من جهة, وبين آليات وطرائق , ومناهج العمل التي تخطاها الزمن من جهة أخرى. وعليه فمن يقرأ بعملية وموضوعية  صيرورة الحركة الوطنية الفلسطينية سيلاحظ بوضوح هيمنة منهج ومعايير سياسية, وتنظيمية, ومالية وسلوكية, تفتقد إلى الحيوية,بل وتحولها على أمراض وأثقال تعيق تطور النضال الوطني. إننا سنجد أنفسنا أمام ممارسة تسود فيها الفردية, والفئوية, والعصبوية,والانتهازية ,واستشراء الفساد,والبيروقراطية في صياغة القرارات أو تنفيذها .
وهكذا أفرغت المؤسسات الوطنية من مضمونها وتحولت إلى هياكل شكلية هشة,يتحكم بها قرار وتوجهات الزعيم الفرد, عندما يحتاجها لدعم تصوراته يقوم بدعوتها,وعندما يجد فيها معارضاً أو عائقاً لتلك التصورات والتوجهات, يتم القفز عنها وتعطيلها, وعليه فقد كان المطبخ الخلفي وسياسة الكواليس أكثر حضوراً وقوة من أي مؤسسة وطنية.إنها فقدت بالتدريج مكانتها كمعبر عن الإدارة الجماعية للشعب الفلسطيني وقواه السياسية بكل تنوعها السياسي-الفكري- الطبقي .
إنها الواقع لم يقف عند حدود مؤسسات م.ت.ف الوطنية,بل تعدّى ليطال أيضاً فصائل العمل الوطني الفلسطيني , حيث يبين واقعها الراهن مجموعة من الثغرات والسلبيات التي تتجلى في شتى ميادين العمل, ولا استثني هنا أيضاً فصائل السار الديمقراطي الفلسطيني.ففي الوقت الذي نؤكد فيه بأن المسؤولية الرئيسية والأساسية عن الوضع الراهن تتحملها القيادة المتنفذة في م.ت.ف وخاصة ياسر عرفات شخصياً,فإننا نرى بأن الفصائل الديمقراطية الفلسطينية تتحمل أيضاً جزءاً من المسؤولية فيما إليه الأمور في الساحة الوطنية, حيث عانت تلك الفصائل من ثغرات وسلبيات وطرائق عمل شائخة,ولم تستطع أن تقدم برنامجها البدل,بتلك القوة التي تنسجم مع طموحها ودورها المفروض والمطلوب وطنياً,فبقيت مشتتة,ولم تتمكن من تحقيق خطوات وحدوية فعلية وجدية, وعانت من تناقض واضح بين خطابها وبرامجها من جانب ,ومستوى ممارستها العملية من جانب آخر.أي أنها تعاني أيضاً من بعض مظاهر الأزمة .
هذا على صعيد البنية الوطنية السياسية بصورة عامة,وفي هذا الإطار يبرز موضوع لانتفاضة,وبناها ومؤسساتها المتنوعة,والتي تواجه أيضاً جملة من الإشكاليات التي يجب التوقف أمامها وقراءتها بعملية وهدوء.
لاشك بأنكم في الوطن المحتل الأقدر على معالجة هذا الموضوع الشائك والهام,فالانتفاضة والجماهير المنتفضة,ومؤسسات العمل الوطني الفلسطيني في الأرض المحتلة,شهدت تغيرات وتطورات عديدة وعميقة ومتنوعة,( في السياسة,والبناء التنظيمي الاجتماعي- السياسي- الاقتصادي-الفكري والكفاحي) . فعبر صيرورة الانتفاضة منذ انطلاقتها عام 87,وحتى الآن أبدعت الجماهير الفلسطينية أشكالاً وأنماطاً كفاحية ونضالية,واجتماعية تستدعي الفخر والاعتزاز وتثير الإعجاب. ولكنها في ذات الوقت وبحكم طول المواجهة,وشراستها وتشابكها,ظهرت فيها مجموعة من الممارسات الخاطئة,كما أن بعض الآليات والبنى لم تعد تستجيب للواقع,الأمر الذي يفرض إعادة النظر بها وتطويرها أو إنهائها .
وفي هذا السياق تحظى العلاقة بين الداخل (حيث يتمركز الآن الفعل الوطني الفلسطيني ) والخارج حيث مركز القرار والمؤسسات الوطنية,بمكانة خاصة,لقد تبدلت الوقائع والعلاقات والمعايير التي يجب أن تحكم هذه العلاقة , وبما يعطي المجال واسعاً لا شراك جماهير الوطن المحتل وقواه السياسية والاجتماعية الدور والمكانة الملائمين لهما في النضال الوطني الفلسطيني . وعليه فمن الأهمية القوى أن تقام العلاقة بين الداخل والخارج على أسس من الاحترام والثقة والديمقراطية, الأمر الذي يتطلب مواجهة تلك الأساليب الفوقية والبيروقراطية التي دأبت القيادة المتنفذة في م.ت.ف على استخدامها في التعامل مع الانتفاضة بجماهيرها ومؤسساتها,واستبدال عملية التفاعل والتكامل الإيجابي,بأوامر الهاتف والفاكس, وكأن جماهير الداخل ثلة من الجنود الأغرار ما أدى إلى نقل الأمراض والسلبيات التي عانت منها الثورة في الخارج إلى الانتفاضة في الداخل, وهكذا بدأت تظهر مجموعة من التناقضات والخلافات التي تفعل فعلها بصورة سلبية في جسم العمل الوطني الفلسطيني .
والآن, وعلى ضوء هذا الواقع المتحرك والصعب,على أكثر من صعيد ومستوى, كيف يمكن التصدي له,وما علاقة كل ذلك بموضوع الديمقراطية؟
الشعب الفلسطيني, وفي مختلف أماكن تواجده, يملك من الخبر والإمكانات والإرادة والتصميم والشجاعة والكفاءات المتنوعة, ما يجعله قادراً على مواجهة التحديات وقطع الطريق على استهدافات المعسكر المعادي,والاستمرار في الكفاح حتى تحقيق الحرية والاستقلال,الأمر الذي ينسجم فعلياً مع مصالح وطموحات وتضحيات هذا الشعب المناضل والعنيد .
إننا وفي ذات الوقت الذي ندرك فيه جيداً حجم وعمق الصعوبات التي تواجهنا,وحجم وعمق التغيرات التي شهدها العالم دولياً وإقليمياً وعربياً ومحلياً,والاختلال الواضح في موازين القوى لصالح عدونا,فإننا ندرك أيضاً خياراً آخر أمامنا غير خيار الاستسلام والتصفية,هناك خيار المقاومة,خيار الانتفاضة,خيار عدم منح الاحتلال فرصة فرض نفسه كأمر واقع, وباختصار: استمرار التمسك بحقوقنا الوطنية الثابتة,المقرّة والمعترف بها من قبل المؤسسات الشرعية والدولية .
لاشك بأن هذا الموقف ليس سهلاً,وسيرتب عليه تضحيات ونضال طويل,ولكنه بدون شك أيضاً سيوفر على شعبنا آلام وعذابات استمرار الاحتلال تحت يافطة الحكم الإدارية- الذاتي,وتصفية القضية الوطنية الفلسطينية باسم " الحل السلمي" الذي تروج له الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني. لقد برهنت عشر جولات من الحوار منذ مدريد وحتى الآن على طبيعة الحل المطروح,أنه حل لتصفية المشروع الوطني الفلسطيني لصالح المشروع الاستعماري الصهيوني , وبموافقة رسمية فلسطينية -  عربية .
هذا هو جوهر " الحل " المطروح على شعبنا, شعب الشهداء , شعب النضال,الشعب الذي يرزح الآلاف منه في المعتقلات الصهيونية , الشعب الذي تشرد في بقاع الأرض,بينما يتوجه كل عام عشرات الآلاف من اليهود إلى أرضه ليستوطنوا فيها,بعد أن تركوا وتخلوا عن أوطانهم الأصلية .
أمام هذا الواقع تتضح بكل جلاء طبيعة الصراع الذي نخوضه,وما دمنا ندعو لخيار المقاومة فما هي الخطوات العملية الأساسية التي يستند لها هذا الخيار ؟
أولاً : التمسك بالحقوق الوطنية الفلسطينية الثابتة,أي حق العودة وتقرير المصير والدولة, بعاصمتها القدس الشريف .
ثانياً : التمسك بالانتفاضة الشعبية الباسلة ومدّها بكل مقومات ومقدمات الصمود والاستمرار والتصاعد( سياسياً – اقتصادياً – كفاحياً ) .
ثالثاً : إعادة الاعتبار والحيوية للعلاقة بين الحركة الوطنية الفلسطينية الجماهير الفلسطينية وذلك من خلال آليات وأطر, وطرائق عمل تهدم الحواجز بين الطرفين,تلك الحواجز المتمثلة بالبيروقراطية والفوقية, والتعامل مع الجماهير وكأنها آلة صمّاء, بينما هي في الواقع والحقيقة قوة الفعل,وعامل العوامل,ومبدعة التجارب النضالية الفذة .
رابعاً :الوقوف أمام أوضاع م.ت.ف بمؤسساتها وآليات عملها,وفعلها وقفة تقييمية نقدية جذرية,والاستعداد لاتخاذ أية إجراءات إصلاحية تنظيمية عميقة وبما يطال مناهج العمل(سياسياً- تنظيمياً- مالياً-جماهيرياً..) وإعادة بناء المنظمة وأطرها واتحاداتها الشعبية على أسس ديمقراطية تضمن احترام الإرادة الجماهيرية,وجماعية اتخاذ القرار والتنفيذ, وتعزيز الوحدة الوطنية,وتطوير العلاقة بين الجماهير الفلسطينية ومؤسساتها وأطرها,في الوطن المحتل,والجماهير الفلسطينية ومؤسسات م.ت.ف خارج الوطن المحتل.وبما يستجيب للواقع الراهن حيث يمثل الداخل مركز ثقل النضال الوطني الفلسطيني,واتخاذ كافة الترتيبات والإجراءات السياسية – التنظيمية – المالية – الكفاحية المعبرة عن هذا الواقع .
خامساً : على ضوء عملية التقييم الجذرية والجدية يجب إعادة ترتيب أوضاع البيت الفلسطيني,وبما يلبي عملية تأطير وتحشيد الجماهير والقوى السياسية بمختلف مشاربها.فمعروف أن هناك قوى فعالة ونشطة لا تزال خارج م.ت.ف وأطرها(حماس ,الجهاد, وغيرها),فهل هذا الوضع منطقي وسليم؟! أم طبيعة المواجهة مع الاحتلال تستدعي تحشيد جميع الطاقات والإمكانات لتأخذ دورها في الكفاح وبما يمتن ويعزز الوحدة الوطنية الفلسطينية ,على أساس البرنامج الوطني التحرري لـ م.ت.ف .
سادساً : إعادة النظر بجدية وعمق بالعلاقة ما بين م.ت.ف والحركة الشعبية العربية وقواها السياسية والاجتماعية,وبما يؤدي لعلاقة وطيدة وسليمة ما بين البعدين الوطني والقومي في الصراع,وهنا تحظى هذه المسالة بأهمية خاصة على صعيد دول الطوق(الأردن- لبنان- سوريا- مصر) أن تحقيق تغيير جدي في موازين القوى لصالح النضال الوطني والقومي لن يكون ممكناً ما لم ينهض الوضع القومي ويأخذ دوره ومكانته الحقيقية في الصراع .
سابعاً : مواجهة خطر التصفية المتمثل بالحلول المطروحة راهناً,بنقل ملفات القضية الوطنية الفلسطينية إلى مؤسسات الشرعية الدولية,ذلك لأن مقررات تلك المؤسسات تقر وبوضوح لشعبنا بحق العودة وتقرير المصير والدولة .
هذه هي مرتكزات خيارات المقاومة الذي نتحدث عنه, وهي مرتكزات ويدركها شعبنا جيداً.
على ضوء التشخيص المكثف, أين تكمن قيمة الديمقراطية في خارطة المواجهة التي أشرت إليها ؟.
إذا ما أردنا البحث العلمي في المقدمات والأسباب التي قادت إلى الوضع الصعب والمأزوم الذي تواجهه الحركة الوطنية الفلسطينية ,فإن غياب الممارسة الديمقراطية,أو ممارستها بصورة شكلية مشوّهة,سيكون أحد تلك الأسباب الرئيسية. وعليه فإن مواجهة الأزمة والمخاطر المحدقة بالشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية , لابد وأن تشكل الديمقراطية عملية ناظمة لها .
انطلاقاً من هذه القاعدة,فإن إعادة النظر والتقييم النقدي الشامل لمسيرة النضال الوطني الفلسطيني ولكي تأخذ مداها وعمقها وترجماتها العلمية, والعملية, لابد وأن تكون ديمقراطية , أي تشارك بها الجماهير الفلسطينية ,وقواها ومؤسساتها, وفصائلها المنظمة, وشخصياتها الاجتماعية – والثقافية – والروحية , وأن لا تقف هذه العملية الديمقراطية عند مستوى الحوار والنقاش , وإنما يجب وبالضرورة أن تتخطى هذا المستوى على ميدان الالتزام بنتائج هذه الوقفة النقدية, وما سيرتب عليه من استخلاصات ودروس .
وفي سياق هذه العملية , الشاملة والمتنامية, التي لا يجوز التعامل معها بصورة قسرية ولحظية , يجب أن تأخذ مداها الزمني . فترسيخ بنى وهياكل ومضامين ومعايير ديمقراطية لا يتم بصورة فوقية , بل هي عملية يجب أن تستند إلى عمق جماهيري , وإلى ممارسة وقيم ديمقراطية تسود من القاعدة إلى القمة, وبالتالي ياتي النظام السياسي سواء على صعيد المؤسسات الوطنية أو على صعيد الفصائل والقوى السياسية المتنوعة كتتويج لبنية ديمقراطية متينة وراسخة تملك مقومات وآليات تمكنها من حماية ذاتها, وحماية المجتمع, وتفجير طاقاته ومكونات قوته الداخلية , والطبيعية والمعنوية .
وعليه فإن ممارسة الديمقراطية هي نمط حياة يتجذر ويغتني ويتطور في سياق عملية شاملة تتقدم للأمام باستمرار, تبدأ من الأسرة وتنطلق بصورة شاقولية وأفقية في آن واحد لتشمل كل جوانب البنية الاجتماعية .
وبناء على هذه النظرة فإنني أعطي قيمة كبرى وأساسية للمبادرة الجماهيرية التي من الطبيعي أن يتجلى في شتى الميادين / المدرسة – الجامعة – الأسرة – المصنع – الثقافة – النادي- اللجان الشعبية- السلوك ..غلى آخر ما هنالك من مؤسسات وقيم اجتماعية متنوعة وارتباطاً بهذا أيضاً تتجلى معاني ودلالات العمل المستمر والمحاولات الدؤوبة التي جيب أن تبذل لتطوير بنى الانتفاضة والعمل السياسي – الكفاحي – الاقتصادي – الجماهيري في الوطن المحتل, وبما يشكل نماذجاً تفرض ذاتها في واقع الحياة, وقادرة على تخليص الانتفاضة مما لحق بها من سلبيات وممارسات خاطئة , وبما يمكنها من فرض معايير سليمة تحكم العلاقة بينها وبين مراكز ومؤسسات العمل الفلسطيني في الشتات سواء على صعيد وطني أم فصائلي ضيق .
إذن فإن إعادة الحيوية للحركة الوطنية الفلسطينية مرهون بترسيخ الديمقراطية في حياة هذه الحركة, وبما يحافظ على تطورها وتقدمها, وكل ذلك يجب أن يستند إلى رؤية وطنية هدفها الحفاظ على طريق الحرية والاستقلال .
لاشك بأن ممارسة الديمقراطية بكافة جوانبها على صعيد الشعب الفلسطيني , لن يكون بهذه السهولة التي تبدو عليه للوهلة الأولى , إذ أن هناك عقبات وعوائق موضوعية وذاتية ستجابه هذه العملية ومنها :
-   الاحتلال الصهيوني والتخريب الذي سيجابه هذه العملية إذ أنه لن يقف مكتوف الأيدي أمام المحاولات التي تدفع باتجاه النهوض الوطني بمضامينه وتجلياته( السياسية – الثقافية – الاقتصادية- الاجتماعية ) , وعليه فإنه سيتصدى بكل الوسائل لتدمير أية مبادرات على هذا الصعيد , لكي يبقى العامل الذاتي الوطني, رازحاً تحت وطأة التشتت والخلاف, وفقد أن الثقة من قبل الجماهير بمؤسساتها وأطرها الوطنية, وبالتالي تعمق حالة اليأس والإحباط, الأمر الذي سيسهل تمرير مخططات التصفية .
-       واقع الشتات الفلسطيني, بما يحمله من تنوع في الواقع الاجتماعي- الاقتصادي- السياسي- الجغرافي لكل تجمع .
-   وهناك مقاومة سلبية سيكون مصدرها الشرائح والأفراد والفئات التي ترى في العملية الديمقراطية تهديداً لمواقعها وامتيازاتها وهيمنتها .
إذن فإن مجابهة الأخطار السياسية التصفوية,المتمثلة بالمشروع الأمريكي – الصهيوني ,أي الحكم الإداري الذاتي للسكان دون الأرض. وكذلك مجابهة الأزمات والصعوبات التي تعاني منها م .ت .ف والحركة الوطنية الفلسطينية على أكثر من مستوى وصعيد تكون عبر إطلاق العملية الديمقراطية بعمقها وشموليتها ورفع الديمقراطية كشعار وهدف تلتف حوله الجماهير, وتغذية الطلائع السياسية , والثقافية , والاجتماعية بمبادراتها , وجهودها باستمرار .
أيها الأخوة والأخوات :
هذه بعض الإشكالات والأفكار التي عمدت إلى وضعها بين أيدي مؤتمركم أملاً أن يكون فيها ما يفيدكم, وهي بطبيعة الحال خاضعة للحوار والأخذ والرد والنقد , الأمر الذي سيفرحني ويبهجني, والنقد بجانبيه سواء الذي يعمق الإيجاب ويغنيه, أو الذي يكشف السلبيات ويضعها على مشرحة العقل والعلم, هو عملية رائعة من خلالها يختبر الرأي فأما أن يثبت أمام محاججة العقل والواقع , أو سيخلي الطريق أمام ماله قيمة ومعنى .
إنني على قناعة وثقة بأن مؤتمركم سيكون له دوراً ملموساً في مواجهة اللحظات الراهنة بكل ما تحفل به من هموم وآمال وآلام , وطموحات, وتضحيات وجهودكم لن تذهب أدراج الرياح بدون شك . أتمنى لكم التوفيق وأحييكم فرداً فرداً, كما أحيي جماهير شعبنا المكافح الصابر الصامد الذي لا ينحني أمام قسوة الظروف, كما أتمنى أن تستمر مبادراتكم من هذا الطراز الرفيع , وتتواصل بفاعلية أكبر, وبعمق أكبر, وبمردود أعلى فأعلى , وبما يخدم قضيتنا الوطنية والإنسانية في آن .
المجد للانتفاضة والوفاء للأسرى والجرحى والشهداء
وإلى الأمام نحو غد مشرق على طريق الحرية والاستقلال

أخوكم
د. جورج حبش
الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
29/8/1993 م
   

الجمعة، 16 سبتمبر 2011

كلمة الدكتور جورج حبش في المجلس الوطني الفلسطيني عام 1991


د. جورج حبش في كلمته أمام المجلس الوطني الفلسطيني :
فلنرفض مشروع الاستسلام الأمريكي ولنثبت مشروع السلام الفلسطيني
أطفال الحجارة يريدون دولة ذات سيادة وليس حكماً ذاتياً !
الوحدة الوطنية أساسها الثوابت الفلسطينية
الهدف 29 / 9 / 1991              

ألقى الرفيق جورج حبش الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين , كلمة هامة في المجلس الوطني الفلسطيني , حدد من خلالها مجموع الثوابت الفلسطينية , والخطوات المطلوبة لتصليب الموقف الفلسطيني في وجه الضغوطات الأمريكية وغيرها وفيمايلي نص الكلمة :
السيد رئيس المجلس الوطني والأخوة أعضاء هيئة الرئاسة
الأخ أبو عمار رئيس دولة فلسطين
رئيس اللجنة التنفيذية
أيتها الأخوة والأخوات
سأتناول في مداخلتي موضوعين اثنين :
الأول : مراجعة وتقييم السياسة التي اتبعتها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية منذ المجلس  الوطني التاسع عشر .
والثاني : الوضع السياسي الذي نعيشه الآن ومؤامرة التصفية وأقول مؤامرة التصفية وليس مؤتمر سلام كما تقول وسائل الإعلام والتي تحيكها الإدارة الأمريكية لقضيتنا الفلسطينية وتحديد الموقف منها . وضرورة دحرها تمهيداً لإعادة الحياة لمبادرة السلام الفلسطينية من وجهة نظرنا كجبهة ليس على أساس قرار 242 , وإنما مبادرتنا القائمة على أساس كل القرارات 181 ,194 , 326 , 3762 الشرعية الدولية بكل قراراتها بما في ذلك وأهمها قرار العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية .

أيتها الأخوات ..أيها الأخوة :
إن انتفاضة شعبنا في الداخل نقلت أو جعلت شعار الدولة الفلسطينية ينتقل من حيز الإمكانية التاريخية إلى حيز الإمكانية الواقعية . ومنذ أن انتقل نضالنا للداخل وأصبح الداخل الحلقة المركزية بالنضال الوطني الفلسطيني ثم منذ أن هبت كل جماهيرنا , أطفالاً ورجالاً ونساءً وأخذت الانتفاضة طابعا الشعبي الجماهيري الديمقراطي , منذ تلك اللحظة أصبحنا نتلمس أن شعار الدولة الفلسطينية أصبح قائماً وممكناً تطبيقه بالمدى الزمني المرئي وتذكرون أن الملك حسين شعر بمعنى الانتفاضة , ومضامينها التاريخية وبالتالي أخذ قراراً بفك الارتباط , وبعد ذلك اجتمعنا نحن هنا بالمجلس الوطني الفلسطيني , وأمام الانتفاضة وروعة الانتفاضة ومعاني الانتفاضة ومضامين الانتفاضة , وأعلنا إعلان الاستقلال , ولم يكن هذا بالصدفة لا من قبل الملك حسين ولا من قبل المجلس الوطني الفلسطيني , وإنما هذا حصل لأن الدولة الفلسطينية انتقلت من حيز الشعار الممكن , إلى حيز الشعار الواقعي ومنذ ذلك الوقت كان هناك رؤيتان وتصوران لكيفية تحقيق هذا الشعار , أي الدولة على الأرض , وكيفية نقل هذا الأمل إلى الواقع الملموس .
كان هناك تصور معين للقيادة الرسمية لمنظمة التحرير الفلسطينية , وكان هناك تصور آخر لبعض القوى الفلسطينية التي شكلت منذ ذلك ما أسميتموه أنتم قوى المعارضة ومن ضمنها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين . " هنا حصل تدخل من أبو عمار وقال : أنتم جزء من القيادة الفلسطينية " . وتابع الأمين العام ولكن أرجوك أن لا تنسى أن الجبهة لم توافق على أول تنازل قدم بالاعتراف بقرار 242 من هنا فلنقل هدف المراجعة هو أن تحصل الفائدة , لنا جميعاً لنضالنا وقضيتنا وشعبنا , ولا يمكن , أرجوكم أن تتأكدوا أنه لا يمكن أن يكون لنا هدف آخر غير هذا الهدف .
أيها الأخوة , اسمعونا جيداً . قد تقولون أن كل ما سأقوله ليس صحيحاً , أنا فقط أرجوكم أن تستمعوا وتحاكموا وتفكروا جيداً بما سأقوله الآن . ماذا كان تصور قيادة منظمة التحرير الفلسطينية  حول تحقيق هذه الدولة التي أصبحت في حيز الإمكان كيف ستحقق . كان ذلك قائماً على أساس أن استمرار الانتفاضة مضافاً إليها استمرار التأييد الدولي والعربي , وفي ظل  مناخ الانفراج الدولي , سيؤدي قريباً إلى تحقيق الدولة وقيامها .
ولكي تسهل القيادة هذه العملية السياسية وتسرع بها من المفيد – بل من الضروري – تقديم التنازلات التي أسميناها نحن في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في ذلك الوقت تنازلات مجانية نقدمها دون أن نقبض ثمناً لها . وهذا يفسر الاعتراف بقرار 242 تحديداً ثم الاعتراف بحق اسرائيل في الوجود ,, ثم إعلان التخلي عن "الإرهاب " ثم إبداء الاستعداد لإجراء تعديلات في ميثاقنا الوطني وإقامة دولة منزوعة السلاح إلى آخر ما هناك من التنازلات التي قدمت في تلك الفترة ظناً من القيادة أنها بهذه السياسة – سياسة التنازلات – من الممكن أن تسرع في إقامة الدولة الفلسطينية , ومن الطبيعي في هذه الحالة أن يترتب على ذلك اعتبار العمل الدبلوماسي والسياسي , اعتباره الحلقة المركزية في نضالنا . هذا هو التصور . هذا هو التكتيك وهذه هي الحلقة المركزية أي الحلقة الدبلوماسية والسياسية . الآن يحق لنا أن نحاكم بصدق وإخلاص وتجرد وليس بهدف التجريح , فقط أن نحاكم هذه السياسة – فما كانت النتيجة – ماذا كانت نتيجة التصورات ؟ وماذا كانت نتيجة هذه السياسية أو  هذا التكتيك ؟ وماذا كانت نتيجة هذا البرنامج النضالي الذي قام على أساس اعتبار أن العمل الدبلوماسي والسياسي الحلقة المركزية في نضالنا ؟
أعتقد أنه من حقي أن أسجل بعد ما يقارب من أربع سنوات أننا بهذا التصور وهذا التكتيك , لسنا أقرب إلى قيام الدولة الفلسطينية عما كنا عليه في مثل هذه الأيام من عام 1988 ولا أريد أن أتفلسف كثيراً . وبالتالي فإنني أستند في تسجيل مثل هذا الاستنتاج إلى الواقع الملموس والواقع الملموس أقوى من أي كلام ومن أي فذلكة . هذا ما كانت تقصده الجبهة الشعبية عندما كانت تنادي بضرورة عقد المجلس الوطني بأسرع وقت والقيام بعملية تقييم ومراجعة بهدف استخلاص الدروس وإتباع تكتيك آخر ورسم برنامج كفاحي حلقته المركزية وهي العمل النضالي الكفاحي – الجماهيري , دون أن ننسى ترابط هذا مع العمل السياسي والدبلوماسي الآن عندما نراجع مثل هذا التصور الذي قدمته قيادة منظمة التحرير الفلسطينية , وبنت على أساسه تكتيكها وبرنامجها , ما هي الأخطاء التي وقعنا بها والتي يجب أن نستفيد منها ونأخذها بعين الاعتبار في عملنا المقبل ؟ 

أولاً : ضرورة معرفة العدو معرفة عميقة ودقيقة بدون أوهام وبدون تمنيات , فهذا العدو سيتشبث بكل شبر مما يعتقده , أرض اسرائيل , ولن ينسحب منها إلا مضطراً نتيجة خسائر اقتصادية ومادية وبشرية ترغمه على الانسحاب , هذا العدو الذي يتجه يميناً حقبة وراء حقبة , هذا العدو الذي تشكل قوى السلام فيه قوى هامشية تسير نحو التقلص يوماً بعد يوم .
ومن الصعب أن تختلف هذه الصورة إلا نتيجة برنامج كفاحي يفرض عليه أن يقف أمام حقائق جديدة .
ثانياً : طبيعة ارتباط العدو الصهيوني بالامبريالية بشكل عام , والامبريالية الأمريكية بشكل خاص , ثم نمو حجم الشراكة الصهيونية في مثل هذا التحالف بحيث بات الموضوع يختلف عن الصورة التي كانت قائمة عام 1956 " قصة هاتف إيزنهاور " .
ثالثاً : العامل المحلي هو الأهم رغم أهمية العامل الدولي والمناخ الدولي .
رابعاً : ضرورة استذكار وتذكر فعل بعض القوانين التي لا مجال للتهرب منها من نوع ( ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة ) ومن نوع ( لن يجلو الاحتلال إلا مضطراً ) ومن نوع : أن أية مفاوضات لا يمكن أن تعطينا نتائج متعاكسة مع موازين القوى على الأرض . إنني هنا لا أتحدث عن موازين القوى بالمعنى العسكري البحت , فاسرائيل اضطرت أن تجلو عن بيروت والجبل وصيدا وصور عندما كانت تصلها حوالي خمس جثث من لبنان يومياً .
فلنتذكر هذه الدروس في نضالنا المقبل مع هذا العدو وعلى ضوء كل ذلك فإنني أدعو قيادة منظمة التحرير الفلسطينية إلى العمل لتحقيق شعار الدولة الفلسطينية وفق التصور الآخر القائم على أساس أن تحقيق الدولة مهمة كفاحية .
وهذا يتطلب أولاً : عدم الاكتفاء باستمرار الانتفاضة وإنما التفكير المتصل بتصعيدها وفي ذهننا إلحاق الخسائر البشرية والاقتصادية بالعدو الاسرائيلي .
ثانياً : ولكي تستمر الانتفاضة وتتصاعد لا بد من الوقفة الجادة أمام الركيزة التنظيمية والركيزة الاقتصادية .
ثالثاً : لا تنازلات مجانية والتشبث بخط سياسي قائم على أساس الشرعية الدولية .
رابعاً : عملية إصلاح ديمقراطي حقيقي وجاد في منظمة التحرير ومؤسساتها تجعلها قادرة على تعبئة ستة ملايين فلسطيني في كافة أماكن تواجدهم تخلق منهم قوة حقيقية في المنطقة قادرة على فرض إرادتها .
خامساً : العمل الجاد في الساحة العربية شعبياً أولاً ورسمياً ثانياً .
سادساً : الأولوية للعمل الكفاحي والنضالي العنفي واللا عنفي , العمل الانتفاضي بشتى أشكاله وألوانه دون أن ننسى أهمية العمل السياسي والدبلوماسي . إن جسر الهوة بين إعلان الاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية على الأرض مهمة كفاحية شاملة وطويلة , لقد جربنا في السنوات الأربعة الماضية تكتيكاً معيناً وبرنامج عمل معين , أنني أدعو لاتباع تكتيك آخر وبرنامج عمل يكون خاضعاً للتقييم والمراجعة منذ سنتين أو بضعة سنوات .

الموضوع الثاني : الوضع السياسي :
لقد حصلت منذ 9 ديسمبر 1987 حتى هذه اللحظة تطورات دراماتيكية ونوعية حاسمة على الصعيدين العربي والدولي .
فقد حسمت الحرب العالمية الباردة – أي الحرب العالمية الثالثة – لمصلحة الغرب ولمصلحة الإدارة الأمريكية بالذات , بحيث بتنا نعيش الآن عالم القطب على عرش النظام العالمي الاستعماري الجديد .
فالعالم الآن ولبضعة سنوات تتحكم به الإدارة الأمريكية هذا لا يعني الاستخفاف الكامل بالقوى الأخرى – أوروبا – الصين – الأمم المتحدة وغيرها – غير أن المظهر الرئيسي للوضع العالمي هو تحكم الامبريالية الأمريكية في هذا الوضع والموقف الأمريكي معروف إزاء شعبنا وقضيتنا .
وعلى الصعيد العربي الرسمي فإن هذا الوضع يعيش حالة انهيار وانقسام وتفتت , وإن محاولة العراق التمرد على هذا الوضع لم تنجح مع الأسف الشديد في مثل هذا الوضع الدولي والعربي الرسمي يتقدم بوش وبيكر بمشروع لتصفية القضية الفلسطينية وليس تسويتها .
إنها فرصة ذهبية كما يقولون من الصعب أن تتكرر , تصفية الصراع العربي – الصهيوني وتصفية الصراع الفلسطيني – الصهيوني في هذه المنطقة من العالم – منطقة النفط .
إنه يعملون ويريدون منا أن نوافق على تصفية قضيتنا بأنفسنا لأنه من خلال موافقتنا فقط يمكن أن تحصل التصفية ويطمئنون للوضع الجديد .
هل في هذا الكلام أية مبالغة ؟ إن جولة بيكر الأخيرة قد أوضحت ذلك بشكل سافر : حكم ذاتي وكنفدرالية مع الأردن في أحسن الأحوال . وممنوع أن نفكر بتقرير المصير أو الدولة الفلسطينية .
هذه هي نتائج كافة جولات بيكر وليس هذا فقط , بل إن عملية الاستيطان مستمرة أثناء المفاوضات , والقدس تبحث في المرحلة الثانية . هذه هي المؤامرة , وفي مجابهتها نحتاج إلى عاملين اثنين : موقف سياسي واضح يضمن وحدة الشعب – برنامج نضالي يعمل على تغيير ميزان القوى تدريجياً , بحيث نصبح قادرين على فرض الدولة وقرارات الشرعية الدولية .
الموقف السياسي – يجب أن يكون رفض المؤامرة , رفض مشروع الاستسلام الأمريكي – رفض الدخول في مؤتمر أكتوبر أو نوفمبر وبلورة موقف فلسطيني واضح على هذا الأساس , ومقابل عملية الرفض هذه نعود ونبرز ونؤكد على مشروع السلام الفلسطيني القائم – كما نفهم – على أساس كافة قرارات الشرعية الدولية , والتي لن نرضى بأن يضيع وسط ما يطرحه المعسكر المعادي من مشاريع .
إنني سأتقدم باسم الجبهة الشعبية باقتراح لمجلسكم بأن يرفض مشروع الاستسلام الأمريكي . ويثبت مشروع السلام الفلسطيني القائم على أساس المؤتمر الدولي الذي تشترك فيه منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد , بعيداً عن مشاريع الوفد المشترك .
ماذا عن موقف نعم ولكن ؟ إننا نرفضه لأنه يعفي المجتمع الدولي من مسؤوليته إزاء القضية الفلسطينية , ولأنه لا يصلح لتعبئة جماهيرنا الفلسطينية والعربية , ولأنه يحمل خطر الانزلاق المتدرج فنجد أنفسنا عن وعي أو عن غير وعي منزلقين وغارقين تدريجياً في المشروع المؤامرة الذي يستهدف تصفية قضيتنا .
إن واجبي أن أسجل بوضوح شديد إن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لا يمكن أن تتعايش مع موقف الانخراط في المؤتمر المؤامرة الذي سيؤدي إلى تصفية قضيتنا . إنني أحمّل كل واحد منكم المسؤولية , فالوحدة الوطنية أساسها الثوابت الفلسطينية , فإذا انهارت هذه الثوابت نكون أمام وحدة استسلامية إن لم تكن خيانية كما وصفناها جميعاً أثناء الحوارات التي دارت تمهيداً لانعقاد المجلس الوطني .
ويهمني أن أؤكد أن أولى الثوابت : قضية التمثيل , وهنا تجري كافة الضغوطات لتقديم تنازل مجاني يتناول التمثيل , إنني أحذر من ذلك واعتبر التجاوب معه بداية الانزلاق في المشروع المؤامرة , فهذه ليست قضية شكلية كما يدّعي البعض بعد تحديد الموقف السياسي الواضح نصبح أمام برنامج العمل الذي يحدث تغييراً متدرجاً في موازين القوى يجعل من إعادة طرح برنامج السلام الفلسطيني موضوعاً قابلاً للتحقيق .
وعناوين هذا البرنامج هي الانتفاضة والوحدة الوطنية وترتيب البيت الفلسطيني وعملية الإصلاح الديمقراطي التي تعبئ ستة ملايين فلسطيني يرفعون شعار تقرير المصير ويناضلون بجدية وبكل الوسائل لتحقيقه بالإضافة إلى نضالنا في الساحة العربية والدولية لكسب الأصدقاء.
الأخ أبو عمار رئيس دولة فلسطين
أطفال الحجارة يريدون دولة مستقلة وذات سيادة , أطفال الحجارة الذين كثيراً ما خاطبتهم من منفاك يريدون علماً ونشيداً وطنياً وجواز سفر ومقعداً في هيئة الأمم , وأرضاً يستندون لها لتحرير كامل تراب وطنهم من النهر إلى البحر, لا يريدون حكماً ذاتياً , ولم يناضلوا لأجل نسخة منقحة لمشروع المملكة العربية المتحدة .
إنني أعرف جيداُ الضغوطات التي تمارس عليك في هذه اللحظة , وأعرف من يقوم بهذه الضغوطات فليكن جوابك باسمنا جميعاً " ومن المؤمنين رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه , فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلو تبديلا " .

والســلام عليـــكم
   
  د جورج حبش

الأربعاء، 14 سبتمبر 2011

لمحة تاريخية عن حياة القائد د. جورج حبش


لمحة تاريخية عن حياة القائد د. جورج حبش

مناضل فلسطيني كرّس حياته للعمل الدؤوب والمتواصل من أجل القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي ومستقبل أفضل للأمة العربية. طبيباً تحول إلى طريق النضال ليعالج جراح شعبه ويعيش هموم أمته، مؤمناً بالهوية العربية وبحتمية الانتصار وهزيمة المشروع الصهيوني على الأرض العربية.
ولد الدكتور جورج حبش في اللد عام 1925، ونشأ وسط عائلة ميسورة الحال تتألف من سبعة أولاد وتمتلك أراضي زراعية ومحلات تجارية، حيث كان والده تاجراً معروفاً في فلسطين، كما كانت والدته تحرص على توجيه أولادها لمتابعة دراستهم والحصول على شهادات جامعية.
في عام 1961 تزوج ابنة عمه هيلدا حبش من القدس، التي وقفت إلى جانبه وشاركته في جميع مراحل حياته النضالية على مدار أربعين عاماً بشجاعة نادرة وما زالت، وخاضت نضالاً مديداً في تصديها لكافة المؤامرات التي تعرض لها الحكيم، من محاولات اختطاف واغتيال، وتحملت عناء الاعتقال والاختفاء إلى جانب نشاطها الجماهيري والنسوي المتميز بعيداً عن الأضواء، خاصة أثناء الحرب الأهلية في لبنان. له ابنتان، ميساء وهي طبيبة متزوجة ولها ثلاث أولاد، ولمى وهي مهندسة كيماوية.
أكمل المرحلة الابتدائية في اللد ثم انتقل لمتابعة دراسته الثانوية في كل من مدينتي يافا والقدس. ثم تخرج من مدرسة تراسنطة في القدس. ] ومن الجدير بالذكر أنه عاد إلى يافا مدرساً لمدة عامين قبل التحاقه بالجامعة، مع أنه لم يكن قد تجاوز السادسة عشر من العمر[.
كان الشعور العام في فلسطين مشحوناً بالغضب والاستياء من الانتداب البريطاني آنذاك، الذي مهّد الطريق للعصابات الصهيونية ( الهاغاناه، شتيرن...الخ )، الأمر الذي توج باحتلال فلسطين من قبل هذه العصابات واقتلاع غالبية الشعب الفلسطيني من أرضه.
انتقل إلى بيروت عام 1944 للالتحاق بكلية الطب في الجامعة الأمريكية. تخرج طبيباً عام 1951. و من الجدير ذكره أنه كان طالباً ناجحاً ومتميزاً، عاش حياته الجامعية جامعاً بين الدراسة وهواياته في الرياضة وحب الفنون والموسيقى.
شكلت السنوات في الجامعة الأمريكية المرحلة التي تبلور فيها انتماؤه وفكره القومي، حيث تأثر بفكر أستاذه الكبير قسطنطين زريق الذي كان بمثابة الأب الروحي للفكر القومي العربي. كما كانت الجامعة الأمريكية ملتقى للشباب العرب الذين قدموا من مختلف الأقطار العربية يحملون همومهم وأحلامهم القومية المشتركة، حيث شاركوا في نشاطات جمعية العروة الوثقى، وهي جمعية ثقافية انتخب الدكتور حبش أميناً لهيئتها العامة عام 1950.
أما الحدث الجسيم الذي تخلل سنوات دراسته الجامعية فهو نكبة عام 1948 الذي كان منعطفاً تاريخياً ونقطة تحول في حياته، إذ قطع دراسته واندفع نحو فلسطين التي بدأت تسقط بلدة تلو الأخرى في يد العصابات الصهيونية. عمل كطبيب متدرب في مستوصف اللد حيث عالج الكثير من الجراح، لكن الجرح الكبير كان سقوط اللد واستشهاد شقيقته الكبرى في تلك الهجرة القاسية، تاركة وراءها ستة أطفال، كما تساقط المئات والآلاف من الفلسطينيين واقتلع شعباً بأكمله من الجذور. هكذا تحول الدكتور جورج حبش الذي لقب بالحكيم من طبيب وإنسان يمارس الحياة الطبيعية إلى مقاوماً وثائراً، وبعد سنوات من الدراسة والتنظيم واستلهاماً لفكر قسطنطين زريق وساطع الحصري قام جورج حبش مع مجموعة من الرفاق مثل وديع حداد، هاني الهندي، أحمد الخطيب، صالح شبل وحامد جبوري بتأسيس حركة القوميين العرب عام 1951، التي كانت تستهدف نهوض عربي شامل في المنطقة.
وقد لعب الدكتور جورج حبش ورفاقه دوراً قيادياً في المظاهرات الطلابية التي عمت لبنان في تلك الفترة. هذه المظاهرات الحاشدة التي جرت في أواخر تشرين أول عام 1951 تأييداً لموقف حكومة مصطفى النحاس زعيم حزب الوفد، التي قامت بإلغاء المعاهدة المصرية – البريطانية. وألهبت خطوة الوفد الشجاعة مشاعر الجماهير العربية ولقيت الدعم في معظم البلدان العربية وخاصة بلدان المشرق العربي.
ثم تابع الدكتور حبش النشاط السياسي في الأردن عام 1952، ومارس مهنة الطب هناك مع الدكتور وديع حداد، وأقاما عيادة وسط عمان وقدما علاجاً مجانياً للطبقة المسحوقة من أبناء المخيمات. وكانت هذه العيادة مركزاً للتعبئة والتوعية السياسية ونشر أفكار حركة القوميين العرب، حيث كان هناك هامشاً من الحريات في الأردن في ذلك الوقت. سرعان ما تعرض بعدها للملاحقة، مما أضطره للعمل السري والاختفاء لمدة عامين في الأردن، وبعدها انتقل إلى سوريا ليمارس نشاطه السياسي والجماهيري في دمشق.
الحدث الأبرز عام 1952 كان قيام الضباط الأحرار في مصر بإعلان الثورة على النظام الملكي، وبدأ المد القومي بالتنامي بدعم من الرئيس عبد الناصر وصولاً لإعلان الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، الأمر الذي أعطى زخماً كبيراً لحركة القوميين العرب، حيث كانت هناك روابط متينة وعلاقة متميزة مع الرئيس عبد الناصر.
ومن المفارقات السياسية، أن الدكتور جورج حبش تعرض للمطاردة والملاحقة ومحاولات الاعتقال من قبل كل من الرجعية المعادية للوحدة، التي قامت بالانفصال عام 1961، ومن القوميين البعثيين الذين استطاعوا إسقاط الرجعية واستلام السلطة عبر ثورة آذار وذلك بسبب الخلافات التي نشبت بينهم وبين الناصريين، الذين قاموا بدورهم (أي الناصريون) بمحاولة انقلاب فاشلة، نتج عنها حملة إعتقالات ومحاكمات واعدامات، وكان د.حبش ممن أصدر البعثيون بحقهم حكم الإعدام بتهمة المشاركة مع الناصريين بمحاولة الانقلاب الفاشلة.
كانت هذه المرحلة الممتدة من 61-64 من المراحل البالغة الصعوبة والقاسية من نضاله السياسي ، إذ تميزت بطابعها السري، نتيجة اشتداد حملات المطاردة والملاحقة لاعتقاله، ترافق ذلك مع بداية حياته الزوجية، مما اضطره عام 1964 للانتقال سراً من دمشق إلى بيروت ومواصلة نضاله من هناك.
كان لهزيمة 1967 والكارثة الكبرى بسقوط القدس واحتلال ما تبقى من الأراضي الفلسطينية بالغ الأثر في نفس الدكتور جورج حبش، وكان لها أثراً كبيراً أيضاً في انحسار المد القومي بشكل عام، علماً أن نشاط حركة القوميين العرب كان قد شمل كافة الأقطار العربية من لبنان والأردن وسورية وصولاً لليمن والبحرين وليبيا. كما كانت الهزيمة سبباً في التحول الأيديولوجي من حركة قوميين عرب إلى حزب ماركسي لينيني دون أن يتعارض هذا التحول مع الانتماء القومي، حيث تم تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 1967 وبدأ الإعداد الجدي للكفاح المسلح.
أعتقل عام 1968 في سوريا لمدة عام، ثم نفذت بعدها عملية اختطاف لتهريبه من السجن خطط لها ونفذها الدكتور وديع حداد. وعندما أصبح خارج السجن عام 1969 وجد نفسه أمام مؤامرة وانشقاق سياسي تنظيمي قام به نايف حواتمة.
انتقل إلى الأردن سراً عام 1969، حيث كانت مرحلة المقاومة الفلسطينية في الأردن، التي شهدت الكثير من المصادمات مع الجيش الأردني أدت إلى معارك ضارية في أيلول عام 1970 وخروج المقاومة الفلسطينية من عمان إلى أحراش جرش. وفي عام 1971، وبعد عام من الحياة القاسية وسط الأحراش تم تطويق القواعد الفدائية مما أدى إلى تغلب الجيش على المقاومة وخروج المقاتلين والقيادة إلى لبنان.
في العام 1972 تعرض لنوبة قلبية كادت تودي بحياته. وفي نفس العام استشهد الرفيق غسان كنفاني على يد الموساد، وكان للحادث وقع الصاعقة على الحكيم. وفي العام 1973 دارت معارك طاحنة مع الجيش اللبناني، وفي نفس العام تعرض الدكتور حبش لمحاولة اختطاف حيث قامت إسرائيل بخطف طائرة ميدل إيست اللبنانية كان يفترض وجود الحكيم على متنها، لكنه نجى منها بأعجوبة نتيجة لإجراء أمنى احترازي أتخذ باللحظات الأخيرة قبل إقلاع الطائرة.
عام 1975 انفجر الوضع في لبنان بين القوى الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية وبين الكتائب والقوى اللبنانية اليمينية المتعاونة مع إسرائيل تحت غطاء حرب أهلية طائفية، انتهت بكارثة أدت إلى دمار البلد واستشهاد أكثر من مائة ألف مواطن.
كان لاستشهاد الدكتور وديع حداد في ظروف غامضة عام 1978 أكبر الأثر على الحكيم، حيث فقد برحيله صديق ورفيق الدرب وقائداً بارزاً للشعب الفلسطيني.
تعرض الدكتور حبش عام 1980 لنزيف دماغي حاد، ولكنه استطاع بإرادته الصلبة أن يتغلب على المرض واستمر على رأس عمله يمارس مهماته كأمين عام للجبهة الشعبية حتى استقالته من الأمانة العامة للجبهة عام 2000.
عام 1982 توجت الحرب اللبنانية بالاجتياح الإسرائيلي للبنان، حيث صمدت المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية ثمانون يوماً بوجه عدوان إسرائيلي شرس استخدمت فيه شتى أنواع الأسلحة الفتاكة والمحرمة دولياً انتهت بحصار بيروت ورحيل المقاومة عن المدينة. وهنا توجهت القيادة الفلسطينية المتمثلة بياسر عرفات إلى تونس، أما الدكتور حبش فقد اختار دمشق كمقر جديد له وللجبهة الشعبية مع باقي الفصائل الفلسطينية لإيمانه العميق باستمرار النضال من إحدى بلدان الطوق مهما كانت الصعوبات.
في عام 1983 عقد المجلس الوطني فلسطيني بعد الخروج من بيروت دورته السادسة عشر في الجزائر، كان للحكيم فيه كلمة تاريخية أعلن فيها الإصرار على استمرار المقاومة بشتى الوسائل.
في عام 1986 تعرض لمحاولة اختطاف ثانية عندما أقدمت إسرائيل على خطف الطائرة الليبية الخاصة التي كان على متنها من دمشق إلى ليبيا، وكان من المفترض أن يعود على نفس الطائرة، لكنه أجّل سفره في اللحظات الأخيرة فنجا بأعجوبة.
عام 1987 اندلعت الانتفاضة الأولى داخل فلسطين مما جعل الدكتور جورج حبش يجند كل طاقاته لدعمها ومساندتها، وكان له دوراً بارزاً في إدارتها.
لقد أدهش الشعب الفلسطيني العالم كله وهو يواجه الجيش الإسرائيلي المدجج بالسلاح بحجارته وإرادته الصلبة، هذه الإرادة الحديدية للشعب الفلسطيني جعلت إسرائيل ولأول مرة تجلس على طاولة المفاوضات مع الفلسطينيين.
عام 1988 عقد المجلس الوطني دورته التاسعة عشر في الجزائر، والذي نتج عنه إعلان وثيقة الاستقلال. لكن حرب الخليج الثانية وما نتج عنها من انقسام في الصف العربي، وضرب العراق وحصاره، هيّأت الظروف المناسبة لطرح مبادرات التسويات الاستسلامية، فانعقد مؤتمر مدريد.
عاد إلى عمان عام 1990 بعد غياب عشرين عاماً للمشاركة في المؤتمر الشعبي لمساندة العراق أثناء حرب الخليج التدميرية.
بدأت الاتصالات السرية بين القيادة الفلسطينية وإسرائيل بإشراف ورعاية أمريكية بعد مؤتمر مدريد عام 1991 ونتج عنها اتفاق أوسلو عام 1993.
لقد عارض الدكتور حبش بشدة تلك الاتفاقيات التي أدت إلى إلغاء الميثاق الوطني الفلسطيني في مرحلة لاحقة، إيماناً منه أن هذه الاتفاقيات لم تلب الحد الأدنى من طموحات الشعب الفلسطيني في إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة فوق تراب فلسطين وعودة اللاجئين إلى وطنهم.
عام 1992 توجه إلى فرنسا للعلاج بعد موافقة الحكومة الفرنسية، لكن سرعان ما تحولت زيارة العلاج إلى قضية سياسية كبيرة. فقد تم احتجازه من قبل القوات الخاصة بمكافحة الإرهاب ( DST ) تحت ضغط اللوبي الصهيوني حيث احتشد الآلاف من اليهود في ساحة المستشفى. وطلبت إسرائيل من فرنسا تسليمه لها، بينما أرادت الحكومة الفرنسية تحويله للقضاء بتهمة الإرهاب. لكن الدكتور حبش وزوجته هيلدا واجها هذا الموقف بتحد كبير وشجاعة نادرة.
إلا أنه غادر فرنسا وفشلت كل هذه المحاولات فشلاً ذريعاً، وذلك بسبب الضغوط الشعبية العربية ودور بعض الأنظمة الرسمية، وخاصة دور الجزائر الشقيق، حيث توجهت طائرة رئاسية جزائرية إلى فرنسا من أجل تأمين عودته وضمان سلامته.
بعد قيام السلطة الفلسطينية وعودة الكثير من القيادات الفلسطينية إلى أراضي السلطة الفلسطينية، ربط الدكتور حبش عودته إلى تلك المناطق بعودة جميع اللاجئين الفلسطينيين، رغم المناشدات والرسائل الكثيرة التي وجهت له، رافضاً التخلي عن اللاجئين.
عام 2000 قدم استقالته من منصب الأمين العام للجبهة في المؤتمر السادس، فاتحاً بذلك فرصة لرفاق آخرين، معطياً بذلك المثل والنموذج للتخلي الطوعي عن المسؤولية الأولى، رغم تزامن هذه الاستقالة مع عدم رضاه على بعض المواقف السياسية التي اتخذتها الهيئات القيادية للجبهة آنذاك.
استمر الدكتور حبش يؤدي دوره الوطني والسياسي، فالاستقالة من الأمانة العامة للجبهة لم تكن تعني أبداً التخلي عن النضال السياسي الذي أمضى ما يزيد عن خمسين عاماً مكرساً حياته من أجله، فاستمر في تأدية هذا الدور، وخاصة في ظل الانتفاضة الثانية والمتواصلة، وبقي على تواصل دائم مع الهيئات القيادية للجبهة ومع كافة الفصائل الوطنية والمؤسسات والفعاليات الوطنية الفلسطينية والعربية، الرسمية منها والشعبية.
بعد استقالته وتحرره من ضغوط العمل اليومي كمسؤول أول للجبهة الشعبية، حدد الدكتور حبش لنفسه ثلاث مهام أساسية:
المهمة الأولى: كتابة تاريخ حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية وتجربته النضالية.
المهمة الثانية: العمل لتأسيس مركزاً للدراسات يعنى بقضايا النضال العربي، وفي مقدمتها الصراع العربي الصهيوني، ومحرضاً على ضرورة تعمق العقل الفلسطيني والعربي في محاولة الإجابة عن أسباب الهزيمة أمام المشروع الصهيوني، رغم ما تمتلكه الأمة العربية من طاقات بشرية وإمكانيات مادية هائلة.
والمهمة الثالثة: العمل من أجل إقامة نواة جبهة قومية هدفها حشد القوى القومية العربية من أجل التصدي لمسؤولياتها وتوحيد جهودها في هذه الظروف، وفي مقدمة مهامها في هذه المرحلة مواجهة عملية التطبيع مع الكيان الصهيوني.

وبتاريخ 26 كانون الثاني 2008 مساءً توفي القائد التاريخي جورج حبش مخلفاً خلفه مرحلة نضالية غنية بالعطاء من أجل القضايا العربية بشكل عام والفلسطينية بشكل خاص .