الأربعاء، 21 سبتمبر 2011

الحكيم : كلمة موجهة إلى المؤتمر الوطني لفلسطيني الأول حول الديمقراطية 29/8/1993


كلمة موجهة إلى المؤتمر الوطني لفلسطيني الأول حول الديمقراطية
29/8/1993

الأخوات والأخوة :
في البداية أتوجه إليكم جميعاً , وإلى كافة أبناء الشعب الفلسطيني المناضل في الوطن المحتل , شعب الانتفاضة, شعب الكفاح والمقاومة , بأسمى آيات الاعتزاز . هذا الشعب الذي يواصل رفع شعلة الحرية والاستقلال , برغم كل الظروف الصعبة والقاسية التي تحيط بنا وبقضيتنا الوطنية , وبالرغم من كل مشاريع التصفية الأمريكية – الصهيونية وما يرافقها من سياسات قمعية منظمة من حصار وقتل وجرح وأبعاد وتدمير واعتقال .
إن مبادرتكم لعقد المؤتمر الفلسطيني الأول حول قضية الديمقراطية , هو دليل على حيوية شعبنا وفاعليته, وتعبير ملموس عن قدرتكم على الإمساك بالحلقات المفصلية في اللحظات الصعبة .
وبدون شك فإن هذه المبادرة – كما يتراءى لي – لم تكن مصادفة أو عفوية , بل هي انعكاس واضح لاستشعاركم ( لهموم والإشكالات والمعضلات والتحديات التي تجابه النضال الوطني , والمجتمع الفلسطيني في هذه المرحلة المحددة بعناصرها , وبسماتها, وبمهامها , ومخاطرها الراهنة والمستقبلية .
كما أن تحديدكم للديمقراطية كحقل للبحث والحوار , وتبادل الآراء , ارتباطاً بالواقع الفلسطيني الملموس , يحمل مضموناً غاية في الأهمية , ويمثل دلالة ذات مغزى عميق, فالديمقراطية كقيمة إنسانية واجتماعية , تمثل منصة انطلاق لا بد منها لأي مجتمع , ولأي قوة سياسية أو لأي حركة ثقافية , أو علمية , أو جماهيرية هدفها التصدي لمعضلات الواقع في شتى الميادين, من أجل بناء مجتمع متماسك وموحد,ليس بفعل الإرهاب والقمع,وإنما كنتيجة لتكامل وتعاضد بناه الاجتماعية والسياسية – والاقتصادية – والثقافية – والروحية , القائمة على الدينامية والنشاط, والإنسان كقيمة أولى أولاً وعاشراً .
مرّ مفهوم الديمقراطية في النظرية والممارسة بمسار تاريخي- اجتماعي يضرب بجذوره عميقاً في تاريخ البشرية, وتعرض لتفسيرات, وتعميق, وتطوير هو انعكاس لتطور المجتمع البشري ذاته, ودائماً في إطار عنصري الزمان والمكان بكل ما لهما وما عليهما, منذ الدولة الأثنية – وربما قبل ذلك - , وحتى الآن . وعليه فالديمقراطية ليست مفهوماً خيالياً مجرداً , كما أن ممارستها ليس إطلاقية بتاتاً, بل إنها في واقع الأمر نسبية, وتعكس باستمرار مستوى التطور الاجتماعي لأي تجمع بشري, مع ملاحظة أن هذا الانعكاس ليس ميكانيكياً البتّة , فبقدر ما أن المجتمعات البشرية تنمو وتتطور بالديمقراطية, فإن الديمقراطية أيضاً تتعمق وتغتني بالممارسة الاجتماعية, وهكذا في سياق عملية اجتماعية- تاريخية متواصلة لا تتوقف .
على هذا الأساس تصبح الممارسة العملة للديمقراطية بقيمها المتنوعة, وبما يشكل كافة مناحي الحياة( السياسية – الاقتصادية – الاجتماعية ...) هي المعيار الحاسم عند تقييم أية تجربة , كما أنها هي المعيار الحاسم الذي يؤشر إلى جدية أي قوة – سياسية أو اجتماعية تتبنى مبدأ الديمقراطية في مواجهتها لاستحقاقات الواقع .
وفي ذات الإطار فالديمقراطية أيضاً وبالإضافة لما تقدم هي عملية شاملة, وأي اجتزاء لها يضعفها ويبهتها, ويفقدها احد عناصرها واغتنائها,بمعنى, أنه لأمر خطير الحديث عن الديمقراطية سياسياً, وتغييبها اجتماعياً,أو اقتصادياً,أو فكرياً, وعليه فالبنية الديمقراطية لأي مجتمع هي كل موحد ومتساند, تشمل العائلة,والمدرسة, والنظام السياسي, الاقتصادي, والثقافي...إلى آخر ما هنالك من ميادين للنشاط الاجتماعي.
على ضوء ما تقدم, فإنه يصبح أمراً ذا قيمة أن يكون لمبادرتكم بعقد هذا المؤتمر ترتيباً وآلية تضمن تواصل هذه المبادرة واستمرارها,وستتضح قيمة هذا الاقتراح وأهميته من خلال الاستخلاصات الأساسية التي سيتمخض عنها مؤتمركم,فبقدر ما ستتضح قيمة هذا الحوار وغناه, بقدر ما سيظهر بأن الموضوع المثار, شديد التعقيد, والتشابك, والتشعب, وستظهر أسئلة وميادين وإشكاليات لم تكن واردة في الحسبان من قبل, الأمر الذي يعني ضرورة الغوص بها أكثر, ويتناول جوانب الديمقراطية من زوايا مختلفة ومتعددة أكثر فأكثر .كما أتمنى على مؤتمركم, والذي بدون شك, سيكون للأوراق والأبحاث والمداخلات التي سيقف أمامها علمية ونظرية أساسية, أن يعطي للممارسة العملية الديمقراطية في الواقع الفلسطيني ما تستحقه من أهمية, وأن تتحلى الحوارات والأبحاث بروح نقدية عميقة حيال هذا الجانب .
والآن اسمحوا لي أن أتناول بعض الجوانب التي أرى من الأهمية بمكان التوقف أمامها, وإمعان الفكر بها, أطرحها عليكم بهدف الحوار والتفاعل, وتبادل الرأي .
يواجه الشعب الفلسطيني وقضيته في الظروف الراهنة تحديات ومخاطر باتت تهدد بتصفية الحقوق الوطنية الفلسطينية , وما حققه الشعب الفلسطيني من إنجازات خلال نضاله الطويل, وذلك عبر المحاولات الجارية لفرض الحكم الإداري الذاتي على شعبنا, كخطوة أولى في مسلسل تصفية الصراع الفلسطيني – الصهيوني , والعربي الصهيوني, وترسيخ مرتكزات المشروع الصهيوني في المنطقة .
وتترافق المشاريع التصفوية المعادية , مع تفجر مظاهر الأمة في الحركة الوطنية الفلسطينية, تلك الأزمة التي تعود في سببها المباشر إلى رضوخ وقبول القيادة المتنفذة في م.ت.ف بالورقة الأمريكية الأخيرة , تلك الورقة التي ضربت وتخطت موضوع القدس, والولاية الجغرافية, وقفزت عن موضوع الاستيطان, أي باختصار الرضوخ للشروط الأمريكية الصهيونية, والاستعداد الواضح من قبل القيادة المتنفذة في م .ت.ف الوطني التحرري,أي حق العودة وتقرير المصير والدولة, بما في ذلك التخلي عن موضوع القدس بكل ما يمثله من معاني ودلالات تاريخية وروحية ووطنية .
وإلى جانب الأزمة في الميدان السياسي تظهر تجليات الأزمة المالية بكل عناصرها وأثقالها, وأيضاً أزمة تنظيمية تطال مؤسسات م.ت.ف وأطرها, سواء لجهة فاعليتها,أو انتظامها أو لجهة كيفية اتخاذ القرار وآليات تنفيذه , حيث تسود الفردانية, والهيمنة الفئوية , مع غياب الفعل والتفكير الجماعي .
وفي ذات الإطار أيضاً يظهر بوضوح عدم الجدية في استثمار إمكانات وطاقات الشعب الفلسطيني وما يتملكه من أوراق قوة, وأولها الانتفاضة بجماهيرها الكفاحية والتنظيمية والاقتصادية التي لا تحظى بالدعم والإسناد المنسجم مع دورها ومكانتها وإنجازاتها في النضال الوطني الفلسطيني, إضافة إلى عدم التوجه الفاعل لتنشيط العمل الكفاحي وبمختلف الأساليب , بالرغم مما يمثله من حلقة محورية أساسية في مواجهة الاحتلال الصهيونية الذي يمارس شتى أنواع العنف والقهر ضد الجماهير الفلسطينية .
إن مظاهر الأزمة ( السياسية – المالية – التنظيمية – الكفاحية ) التي تعصف رياحها في الساحة الفلسطينية في هذه الأيام, وبكل ما ترتب عليها من الأسئلة وإشكالات, ليست عفوية, كما أنها ليست نبتاً شيطانياً وليد اللحظة , وأن تكن الصعوبات الموضوعية الراهنة قد سرّعت من بروزها ,وفاقمت وعمّقت تجلياتها وأبعادها, بمعنى أن الأزمة ما كان لها أن تأخذ هذا المنحى وهذا المستوى من التأثير والفعل السلبي, برغم كل الظروف الموضوعية القاسية والصعبة لو لم تستند هذه الظروف إلى عامل ذاتي, وبنية ذاتية,مرتبكة وهشّة, وغير محصنة, إنها نتاج لنهج سياسي وتنظيمي وإداري,لم يتمكن من تطوير ذلته وبما يتلاءم مع متطلبات النضال الوطني باستمرار عبر مراحله المتعددة. بمعنى عد القدرة على خلق وإيجاد آليات التجديد والتطوير الذاتي باستمرار, والبنية التي لا تستطيع تجديد ذاتها, ومما ينسجم مع تطور الواقع ذاته بعناصره المتعددة,لابد وأن تصل إلى لحظة التناقض بين استحقاقات الواقع الناشئ من جهة, وبين آليات وطرائق , ومناهج العمل التي تخطاها الزمن من جهة أخرى. وعليه فمن يقرأ بعملية وموضوعية  صيرورة الحركة الوطنية الفلسطينية سيلاحظ بوضوح هيمنة منهج ومعايير سياسية, وتنظيمية, ومالية وسلوكية, تفتقد إلى الحيوية,بل وتحولها على أمراض وأثقال تعيق تطور النضال الوطني. إننا سنجد أنفسنا أمام ممارسة تسود فيها الفردية, والفئوية, والعصبوية,والانتهازية ,واستشراء الفساد,والبيروقراطية في صياغة القرارات أو تنفيذها .
وهكذا أفرغت المؤسسات الوطنية من مضمونها وتحولت إلى هياكل شكلية هشة,يتحكم بها قرار وتوجهات الزعيم الفرد, عندما يحتاجها لدعم تصوراته يقوم بدعوتها,وعندما يجد فيها معارضاً أو عائقاً لتلك التصورات والتوجهات, يتم القفز عنها وتعطيلها, وعليه فقد كان المطبخ الخلفي وسياسة الكواليس أكثر حضوراً وقوة من أي مؤسسة وطنية.إنها فقدت بالتدريج مكانتها كمعبر عن الإدارة الجماعية للشعب الفلسطيني وقواه السياسية بكل تنوعها السياسي-الفكري- الطبقي .
إنها الواقع لم يقف عند حدود مؤسسات م.ت.ف الوطنية,بل تعدّى ليطال أيضاً فصائل العمل الوطني الفلسطيني , حيث يبين واقعها الراهن مجموعة من الثغرات والسلبيات التي تتجلى في شتى ميادين العمل, ولا استثني هنا أيضاً فصائل السار الديمقراطي الفلسطيني.ففي الوقت الذي نؤكد فيه بأن المسؤولية الرئيسية والأساسية عن الوضع الراهن تتحملها القيادة المتنفذة في م.ت.ف وخاصة ياسر عرفات شخصياً,فإننا نرى بأن الفصائل الديمقراطية الفلسطينية تتحمل أيضاً جزءاً من المسؤولية فيما إليه الأمور في الساحة الوطنية, حيث عانت تلك الفصائل من ثغرات وسلبيات وطرائق عمل شائخة,ولم تستطع أن تقدم برنامجها البدل,بتلك القوة التي تنسجم مع طموحها ودورها المفروض والمطلوب وطنياً,فبقيت مشتتة,ولم تتمكن من تحقيق خطوات وحدوية فعلية وجدية, وعانت من تناقض واضح بين خطابها وبرامجها من جانب ,ومستوى ممارستها العملية من جانب آخر.أي أنها تعاني أيضاً من بعض مظاهر الأزمة .
هذا على صعيد البنية الوطنية السياسية بصورة عامة,وفي هذا الإطار يبرز موضوع لانتفاضة,وبناها ومؤسساتها المتنوعة,والتي تواجه أيضاً جملة من الإشكاليات التي يجب التوقف أمامها وقراءتها بعملية وهدوء.
لاشك بأنكم في الوطن المحتل الأقدر على معالجة هذا الموضوع الشائك والهام,فالانتفاضة والجماهير المنتفضة,ومؤسسات العمل الوطني الفلسطيني في الأرض المحتلة,شهدت تغيرات وتطورات عديدة وعميقة ومتنوعة,( في السياسة,والبناء التنظيمي الاجتماعي- السياسي- الاقتصادي-الفكري والكفاحي) . فعبر صيرورة الانتفاضة منذ انطلاقتها عام 87,وحتى الآن أبدعت الجماهير الفلسطينية أشكالاً وأنماطاً كفاحية ونضالية,واجتماعية تستدعي الفخر والاعتزاز وتثير الإعجاب. ولكنها في ذات الوقت وبحكم طول المواجهة,وشراستها وتشابكها,ظهرت فيها مجموعة من الممارسات الخاطئة,كما أن بعض الآليات والبنى لم تعد تستجيب للواقع,الأمر الذي يفرض إعادة النظر بها وتطويرها أو إنهائها .
وفي هذا السياق تحظى العلاقة بين الداخل (حيث يتمركز الآن الفعل الوطني الفلسطيني ) والخارج حيث مركز القرار والمؤسسات الوطنية,بمكانة خاصة,لقد تبدلت الوقائع والعلاقات والمعايير التي يجب أن تحكم هذه العلاقة , وبما يعطي المجال واسعاً لا شراك جماهير الوطن المحتل وقواه السياسية والاجتماعية الدور والمكانة الملائمين لهما في النضال الوطني الفلسطيني . وعليه فمن الأهمية القوى أن تقام العلاقة بين الداخل والخارج على أسس من الاحترام والثقة والديمقراطية, الأمر الذي يتطلب مواجهة تلك الأساليب الفوقية والبيروقراطية التي دأبت القيادة المتنفذة في م.ت.ف على استخدامها في التعامل مع الانتفاضة بجماهيرها ومؤسساتها,واستبدال عملية التفاعل والتكامل الإيجابي,بأوامر الهاتف والفاكس, وكأن جماهير الداخل ثلة من الجنود الأغرار ما أدى إلى نقل الأمراض والسلبيات التي عانت منها الثورة في الخارج إلى الانتفاضة في الداخل, وهكذا بدأت تظهر مجموعة من التناقضات والخلافات التي تفعل فعلها بصورة سلبية في جسم العمل الوطني الفلسطيني .
والآن, وعلى ضوء هذا الواقع المتحرك والصعب,على أكثر من صعيد ومستوى, كيف يمكن التصدي له,وما علاقة كل ذلك بموضوع الديمقراطية؟
الشعب الفلسطيني, وفي مختلف أماكن تواجده, يملك من الخبر والإمكانات والإرادة والتصميم والشجاعة والكفاءات المتنوعة, ما يجعله قادراً على مواجهة التحديات وقطع الطريق على استهدافات المعسكر المعادي,والاستمرار في الكفاح حتى تحقيق الحرية والاستقلال,الأمر الذي ينسجم فعلياً مع مصالح وطموحات وتضحيات هذا الشعب المناضل والعنيد .
إننا وفي ذات الوقت الذي ندرك فيه جيداً حجم وعمق الصعوبات التي تواجهنا,وحجم وعمق التغيرات التي شهدها العالم دولياً وإقليمياً وعربياً ومحلياً,والاختلال الواضح في موازين القوى لصالح عدونا,فإننا ندرك أيضاً خياراً آخر أمامنا غير خيار الاستسلام والتصفية,هناك خيار المقاومة,خيار الانتفاضة,خيار عدم منح الاحتلال فرصة فرض نفسه كأمر واقع, وباختصار: استمرار التمسك بحقوقنا الوطنية الثابتة,المقرّة والمعترف بها من قبل المؤسسات الشرعية والدولية .
لاشك بأن هذا الموقف ليس سهلاً,وسيرتب عليه تضحيات ونضال طويل,ولكنه بدون شك أيضاً سيوفر على شعبنا آلام وعذابات استمرار الاحتلال تحت يافطة الحكم الإدارية- الذاتي,وتصفية القضية الوطنية الفلسطينية باسم " الحل السلمي" الذي تروج له الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني. لقد برهنت عشر جولات من الحوار منذ مدريد وحتى الآن على طبيعة الحل المطروح,أنه حل لتصفية المشروع الوطني الفلسطيني لصالح المشروع الاستعماري الصهيوني , وبموافقة رسمية فلسطينية -  عربية .
هذا هو جوهر " الحل " المطروح على شعبنا, شعب الشهداء , شعب النضال,الشعب الذي يرزح الآلاف منه في المعتقلات الصهيونية , الشعب الذي تشرد في بقاع الأرض,بينما يتوجه كل عام عشرات الآلاف من اليهود إلى أرضه ليستوطنوا فيها,بعد أن تركوا وتخلوا عن أوطانهم الأصلية .
أمام هذا الواقع تتضح بكل جلاء طبيعة الصراع الذي نخوضه,وما دمنا ندعو لخيار المقاومة فما هي الخطوات العملية الأساسية التي يستند لها هذا الخيار ؟
أولاً : التمسك بالحقوق الوطنية الفلسطينية الثابتة,أي حق العودة وتقرير المصير والدولة, بعاصمتها القدس الشريف .
ثانياً : التمسك بالانتفاضة الشعبية الباسلة ومدّها بكل مقومات ومقدمات الصمود والاستمرار والتصاعد( سياسياً – اقتصادياً – كفاحياً ) .
ثالثاً : إعادة الاعتبار والحيوية للعلاقة بين الحركة الوطنية الفلسطينية الجماهير الفلسطينية وذلك من خلال آليات وأطر, وطرائق عمل تهدم الحواجز بين الطرفين,تلك الحواجز المتمثلة بالبيروقراطية والفوقية, والتعامل مع الجماهير وكأنها آلة صمّاء, بينما هي في الواقع والحقيقة قوة الفعل,وعامل العوامل,ومبدعة التجارب النضالية الفذة .
رابعاً :الوقوف أمام أوضاع م.ت.ف بمؤسساتها وآليات عملها,وفعلها وقفة تقييمية نقدية جذرية,والاستعداد لاتخاذ أية إجراءات إصلاحية تنظيمية عميقة وبما يطال مناهج العمل(سياسياً- تنظيمياً- مالياً-جماهيرياً..) وإعادة بناء المنظمة وأطرها واتحاداتها الشعبية على أسس ديمقراطية تضمن احترام الإرادة الجماهيرية,وجماعية اتخاذ القرار والتنفيذ, وتعزيز الوحدة الوطنية,وتطوير العلاقة بين الجماهير الفلسطينية ومؤسساتها وأطرها,في الوطن المحتل,والجماهير الفلسطينية ومؤسسات م.ت.ف خارج الوطن المحتل.وبما يستجيب للواقع الراهن حيث يمثل الداخل مركز ثقل النضال الوطني الفلسطيني,واتخاذ كافة الترتيبات والإجراءات السياسية – التنظيمية – المالية – الكفاحية المعبرة عن هذا الواقع .
خامساً : على ضوء عملية التقييم الجذرية والجدية يجب إعادة ترتيب أوضاع البيت الفلسطيني,وبما يلبي عملية تأطير وتحشيد الجماهير والقوى السياسية بمختلف مشاربها.فمعروف أن هناك قوى فعالة ونشطة لا تزال خارج م.ت.ف وأطرها(حماس ,الجهاد, وغيرها),فهل هذا الوضع منطقي وسليم؟! أم طبيعة المواجهة مع الاحتلال تستدعي تحشيد جميع الطاقات والإمكانات لتأخذ دورها في الكفاح وبما يمتن ويعزز الوحدة الوطنية الفلسطينية ,على أساس البرنامج الوطني التحرري لـ م.ت.ف .
سادساً : إعادة النظر بجدية وعمق بالعلاقة ما بين م.ت.ف والحركة الشعبية العربية وقواها السياسية والاجتماعية,وبما يؤدي لعلاقة وطيدة وسليمة ما بين البعدين الوطني والقومي في الصراع,وهنا تحظى هذه المسالة بأهمية خاصة على صعيد دول الطوق(الأردن- لبنان- سوريا- مصر) أن تحقيق تغيير جدي في موازين القوى لصالح النضال الوطني والقومي لن يكون ممكناً ما لم ينهض الوضع القومي ويأخذ دوره ومكانته الحقيقية في الصراع .
سابعاً : مواجهة خطر التصفية المتمثل بالحلول المطروحة راهناً,بنقل ملفات القضية الوطنية الفلسطينية إلى مؤسسات الشرعية الدولية,ذلك لأن مقررات تلك المؤسسات تقر وبوضوح لشعبنا بحق العودة وتقرير المصير والدولة .
هذه هي مرتكزات خيارات المقاومة الذي نتحدث عنه, وهي مرتكزات ويدركها شعبنا جيداً.
على ضوء التشخيص المكثف, أين تكمن قيمة الديمقراطية في خارطة المواجهة التي أشرت إليها ؟.
إذا ما أردنا البحث العلمي في المقدمات والأسباب التي قادت إلى الوضع الصعب والمأزوم الذي تواجهه الحركة الوطنية الفلسطينية ,فإن غياب الممارسة الديمقراطية,أو ممارستها بصورة شكلية مشوّهة,سيكون أحد تلك الأسباب الرئيسية. وعليه فإن مواجهة الأزمة والمخاطر المحدقة بالشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية , لابد وأن تشكل الديمقراطية عملية ناظمة لها .
انطلاقاً من هذه القاعدة,فإن إعادة النظر والتقييم النقدي الشامل لمسيرة النضال الوطني الفلسطيني ولكي تأخذ مداها وعمقها وترجماتها العلمية, والعملية, لابد وأن تكون ديمقراطية , أي تشارك بها الجماهير الفلسطينية ,وقواها ومؤسساتها, وفصائلها المنظمة, وشخصياتها الاجتماعية – والثقافية – والروحية , وأن لا تقف هذه العملية الديمقراطية عند مستوى الحوار والنقاش , وإنما يجب وبالضرورة أن تتخطى هذا المستوى على ميدان الالتزام بنتائج هذه الوقفة النقدية, وما سيرتب عليه من استخلاصات ودروس .
وفي سياق هذه العملية , الشاملة والمتنامية, التي لا يجوز التعامل معها بصورة قسرية ولحظية , يجب أن تأخذ مداها الزمني . فترسيخ بنى وهياكل ومضامين ومعايير ديمقراطية لا يتم بصورة فوقية , بل هي عملية يجب أن تستند إلى عمق جماهيري , وإلى ممارسة وقيم ديمقراطية تسود من القاعدة إلى القمة, وبالتالي ياتي النظام السياسي سواء على صعيد المؤسسات الوطنية أو على صعيد الفصائل والقوى السياسية المتنوعة كتتويج لبنية ديمقراطية متينة وراسخة تملك مقومات وآليات تمكنها من حماية ذاتها, وحماية المجتمع, وتفجير طاقاته ومكونات قوته الداخلية , والطبيعية والمعنوية .
وعليه فإن ممارسة الديمقراطية هي نمط حياة يتجذر ويغتني ويتطور في سياق عملية شاملة تتقدم للأمام باستمرار, تبدأ من الأسرة وتنطلق بصورة شاقولية وأفقية في آن واحد لتشمل كل جوانب البنية الاجتماعية .
وبناء على هذه النظرة فإنني أعطي قيمة كبرى وأساسية للمبادرة الجماهيرية التي من الطبيعي أن يتجلى في شتى الميادين / المدرسة – الجامعة – الأسرة – المصنع – الثقافة – النادي- اللجان الشعبية- السلوك ..غلى آخر ما هنالك من مؤسسات وقيم اجتماعية متنوعة وارتباطاً بهذا أيضاً تتجلى معاني ودلالات العمل المستمر والمحاولات الدؤوبة التي جيب أن تبذل لتطوير بنى الانتفاضة والعمل السياسي – الكفاحي – الاقتصادي – الجماهيري في الوطن المحتل, وبما يشكل نماذجاً تفرض ذاتها في واقع الحياة, وقادرة على تخليص الانتفاضة مما لحق بها من سلبيات وممارسات خاطئة , وبما يمكنها من فرض معايير سليمة تحكم العلاقة بينها وبين مراكز ومؤسسات العمل الفلسطيني في الشتات سواء على صعيد وطني أم فصائلي ضيق .
إذن فإن إعادة الحيوية للحركة الوطنية الفلسطينية مرهون بترسيخ الديمقراطية في حياة هذه الحركة, وبما يحافظ على تطورها وتقدمها, وكل ذلك يجب أن يستند إلى رؤية وطنية هدفها الحفاظ على طريق الحرية والاستقلال .
لاشك بأن ممارسة الديمقراطية بكافة جوانبها على صعيد الشعب الفلسطيني , لن يكون بهذه السهولة التي تبدو عليه للوهلة الأولى , إذ أن هناك عقبات وعوائق موضوعية وذاتية ستجابه هذه العملية ومنها :
-   الاحتلال الصهيوني والتخريب الذي سيجابه هذه العملية إذ أنه لن يقف مكتوف الأيدي أمام المحاولات التي تدفع باتجاه النهوض الوطني بمضامينه وتجلياته( السياسية – الثقافية – الاقتصادية- الاجتماعية ) , وعليه فإنه سيتصدى بكل الوسائل لتدمير أية مبادرات على هذا الصعيد , لكي يبقى العامل الذاتي الوطني, رازحاً تحت وطأة التشتت والخلاف, وفقد أن الثقة من قبل الجماهير بمؤسساتها وأطرها الوطنية, وبالتالي تعمق حالة اليأس والإحباط, الأمر الذي سيسهل تمرير مخططات التصفية .
-       واقع الشتات الفلسطيني, بما يحمله من تنوع في الواقع الاجتماعي- الاقتصادي- السياسي- الجغرافي لكل تجمع .
-   وهناك مقاومة سلبية سيكون مصدرها الشرائح والأفراد والفئات التي ترى في العملية الديمقراطية تهديداً لمواقعها وامتيازاتها وهيمنتها .
إذن فإن مجابهة الأخطار السياسية التصفوية,المتمثلة بالمشروع الأمريكي – الصهيوني ,أي الحكم الإداري الذاتي للسكان دون الأرض. وكذلك مجابهة الأزمات والصعوبات التي تعاني منها م .ت .ف والحركة الوطنية الفلسطينية على أكثر من مستوى وصعيد تكون عبر إطلاق العملية الديمقراطية بعمقها وشموليتها ورفع الديمقراطية كشعار وهدف تلتف حوله الجماهير, وتغذية الطلائع السياسية , والثقافية , والاجتماعية بمبادراتها , وجهودها باستمرار .
أيها الأخوة والأخوات :
هذه بعض الإشكالات والأفكار التي عمدت إلى وضعها بين أيدي مؤتمركم أملاً أن يكون فيها ما يفيدكم, وهي بطبيعة الحال خاضعة للحوار والأخذ والرد والنقد , الأمر الذي سيفرحني ويبهجني, والنقد بجانبيه سواء الذي يعمق الإيجاب ويغنيه, أو الذي يكشف السلبيات ويضعها على مشرحة العقل والعلم, هو عملية رائعة من خلالها يختبر الرأي فأما أن يثبت أمام محاججة العقل والواقع , أو سيخلي الطريق أمام ماله قيمة ومعنى .
إنني على قناعة وثقة بأن مؤتمركم سيكون له دوراً ملموساً في مواجهة اللحظات الراهنة بكل ما تحفل به من هموم وآمال وآلام , وطموحات, وتضحيات وجهودكم لن تذهب أدراج الرياح بدون شك . أتمنى لكم التوفيق وأحييكم فرداً فرداً, كما أحيي جماهير شعبنا المكافح الصابر الصامد الذي لا ينحني أمام قسوة الظروف, كما أتمنى أن تستمر مبادراتكم من هذا الطراز الرفيع , وتتواصل بفاعلية أكبر, وبعمق أكبر, وبمردود أعلى فأعلى , وبما يخدم قضيتنا الوطنية والإنسانية في آن .
المجد للانتفاضة والوفاء للأسرى والجرحى والشهداء
وإلى الأمام نحو غد مشرق على طريق الحرية والاستقلال

أخوكم
د. جورج حبش
الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
29/8/1993 م
   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق