قصة كتابي عن جورج حبش
فؤاد مطر
أتاح لي الدكتور جورج حبش وكنت كـ " محرر الشؤون العربية " في " النهار " وكبير مراسليها في العالم العربي أتابع باهتمام حركته الثورية ونضاله المتعدد الأوجه من أجل القضية الفلسطينية , فرصة أن أقدّم في كتاب تجربته النضالية وفي صيغة حوارات مسجلة معه, وبعدما ابتلي لبنان بالاحتراب الأهلي أو بما يحوز اعتبارها صراعات الآخرين على لبنان واستعمال الوطن كساحة للمتصارعين بالمال والسلاح والذمم المنقوصة والضمائر المفقودة, بات من غير المتيسر إصدار الكتاب في لبنان ثم غادرت لبنان مع المغادرين الذين يرفضون تلويث قناعاتهم بالطروحات الميليشاوية واستقر المقام بي في لندن لعقدين من الزمن, وفي العام 1983 وجدت من الضروري طبع كمية محدودة من الكتاب وتحت عنوان " حكيم الثورة " . وها هي الطبعة الجديدة تصدرها مع مطلع العام 2009 " دار النهار " ضمن سلسلة أعمالي الشاملة . وسيكون الكتاب في المكتبات وفي " معرض الكتاب " في بيروت وسائر المعارض في العالم العربي وأوروبا .ولقد أوضحت في الصفحات الأولى من الطبعة الجديدة قصة الكتاب أرويها هنا على النحو الآتي :
ذات يوم شتاء 1975 وكانت الغيوم الداكنة بدأت تملأ سماء العلاقات اللبنانية – الفلسطينية اتصلت بالزميل بسام أبو شريف رئيس تحرير مجلة " الهدف " التي تنطلق باسم " الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" أطلب منه أن نلتقي .
ولقد اعتدنا أن نتصل دائماً بالزميل بسام لنستفسر عن نبأ أو نتحقق من حادثة أو نسمع الرأي في تحليل يتناول من قريب أو من بعيد " الجبهة الشعبية " .
وعندما التقينا في مكتبه الكائن في الطبقة الأولى من إحدى بنايات " حي المزرعة " في بيروت افترض للوهلة الأولى أن الغرض من اللقاء هو الاستفسار عن أمر أو مناقشة وجهة نظر ما . لكنني عندما طرحت عليه الفكرة التي جئت من أجلها ارتسمت على محياه المشاعر الناشئة عن الاستفهام والتعجب ثم قال بعد انتهاء جلسة استغرقت ساعة : هل أنت مسافر هذه الأيام ؟
وأجبته بأن طبيعة عملي في صحيفة " النهار " تتطلب أن أكون دائماً على سفر ولكنني على استعداد لتجميد السفر لمدة ثلاثة أشهر خصوصاً أنني منذ سنوات طويلة لم أحصل على إجازة وفي خلال الأِشهر الثلاثة يمكنني إنجاز العمل التأليفي الذي أتطلع إليه .
واتفقنا أ، يصلني الرد في غضون أسبوعين وودعت الزميل بسام. وبعد يومين سافرت إلى القاهرة في مهمة صحيفة كعادتي في السفر مرة أو مرتين أو ثلاث مرات في الشهر, وبعد وصولي إلى القاهرة ببضع ساعات علمت من اتصال هاتفي أجريته مع عائلتي من القاهرة أن الزميل بسام اتصل لإبلاغي الموافقة على الفكرة وأنه يرى أن يبدأ التنفيذ بعد أسبوع . وعدت إلى بيروت لأبدأ .
كانت الفكرة التي طرحتها على الزميل بسام تتلخص في الآتي :
هنالك أشخاص تاريخيون قد يكون من الصعب عليهم كتابة مذكراتهم وهم في خضم العمل النضالي . كذلك إنه من الصعب على هؤلاء أيضاً أن يتقاعدوا في سن معينة ويتفرغوا لكتابة المذكرات مثل غيرهم من زعماء السياسة ورجال الفكر والفن والمسرح وأصحاب التجارب عموماً .
وفي ضوء ذلك , ما الذي يمنع من أن يبادر كاتب وينوب عن هؤلاء في كتابة ذكريات تجمع بين السيرة الذاتية والمذكرات معاً وبالتحديد ما هو متاح من هذه المذكرات .
والدكتور جورج حبش هو واحد من هؤلاء . وبما أن أحداً منكم ككتاب وصحافيين ملتزمين ومقاتلين لن تقدموا على مثل هذا الأمر , وإذا أقدمتم فإنكم ستكتبون بالحد الأقصى من التحفظ باللغة الحزبية والملتزمة , فما رأيك لو تقترح على الدكتور حبش أن أقوم بالمهمة فأجري جلسات معه أسأله ويجيب وبعد ذلك نقوم بتفريغ هذه الجلسات ونعدها للنشر في كتاب .
وسألني الزميل بسام أن أضع الأسئلة التي سأطرحها على الدكتور حبش في حال موافقته على الفكرة لأننا بذلك نساعد على توضيح برنامج الجلسات .
وقلت له : تطلب مني أسئلة ؟ الحقيقة أنني لا أدري نوع الأسئلة التي يمكن أضعها . إنها عن كل مراحل حياة الدكتور حبش. تصور أنني صحافي منذ سبع عشرة سنة . ومنذ سنوات ونحن نكتب عن " الجبهة الشعبية " وعن الدكتور حبش.نكتب عن العمليات الفدائية التي تحدث وعن الانقسامات التي تكاثرت داخل"الجبهة الشعبية" وداخل "حركة القوميين العرب". نكتب عن ليلى خالد التي خطفت الطائرة نتيجة إيمان بمبادئ وضعها الدكتور حبش. ونكتب عن الأزمات التي حدثت في العالم العربي وكان الدكتور حبش شكل أو آخر طرفا فيها. اننا نكتب عن كل ذلك ونحرر الأخبار المتعلقة بنشاطات"الجبهة الشعبية" وأمينها العام وكننا لا نعرف تماما قصة جورج حبش ولا نعرف دوافع الانقسامات. وقبل ذلك لا نعرف كيف اجتمع الفلسطيني مع الأردني مع الكويتي مع السوري في الجامعة الأمريكية في بيروت. وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
وإذا كنا نحن الذين نعمل في حقل الصحافة والكتابة لا نعرف تماما فما بالك بالقراء العاديين الذين ينتظرون منا أن نكتب لكي يقرأ الواحد منهم ما لا يعرفه.
وأضفتُ مخاطبا الزميل بسَّام أبو شريف: إنني لن أترك سؤالا يمكن أن يخطر في البال إلا وأطرحه على الدكتور جورج حبش. وله أن يجيب أو لا يجيب. ويهمّني في الوقت نفسه التأكيد على الهدف من الأسئلة لن يكون الإحراج ولا التعجيز وإنما استزادة المعرفة.
وبعدما نقل الزميل بسام إلى الدكتور جورج حبش فكرتي , وافترض أنه كزميل وككاتب زكّاها , علماً بأن الدكتور حبش لا يساير في أمر غير مقتنع به , اتصل لإبلاغي الموافقة , وعندما اتصل بي كنت مسافراً .
وبعدما عدت ُ وتبلغتُ موافقة الدكتور جورج حبش على الفكرة التي طرحتها بدأت أستعد للتنفيذ معتزاً بتقييم لي سمعه الزميل بسام من الدكتور جورج حبش ونقله لي الموافقة على الفكرة .
كانت " عدة "العمل عبارة عن آلة تسجيل وبضع شرائط وبطاريات وضعتها كلها في حقيبة . وعلى رغم أنني من سكان بيروت منذ خمس سنوات وعشرين سنة (هذا حتى ذلك العام 1975 ) إلا أنني لم أتمكن من تحديد المكان الذي نقلني إليه في منتصف ليالي الشتاء الحزينة أحد أعضاء " الجبهة الشعبية " الذي تم إيفاده إلى مكتب " الجبهة الشعبية " حيث كنت أنتظر ليرافقني إلى المكان الذي سأجري فيه المقابلة الأولى مع الدكتور حبش . لقد سلك الأخ الذي رافقني طرقات وجدت مع الدوران نفسي لا أعرف أين هي بالتحديد .
وخلال نصف ساعة كنت في شقة من إحدى بنايات أطرح على الدكتور حبش السؤال تلو السؤال وكنا نواجه موجه البرد القارس بكاسات الشاي التي يأتينا بها أحد عناصر حماية الدكتور حبش .
تلك الليلة عظيمة . فلمرة الأولى أسمع الدكتور جورج حبش , وكان في تلك الأيام شاغل الدنيا وصحافة العالم بسبب جو الذعر الذي تركته العمليات الفدائية التي ارتبطت باسمه وباسم المخطط الدكتور وديع حداد زميله في الدراسة والعمل الثوري - يروي قصة حياته .
ولقد أستني رقة هذا القائد التميز وتواضعه والدقة المتناهية في التعبير .
وفي اليوم التالي اتصلت بالزميل بسام أحاول منه معرفة المكان الذي جرت فيه مقابلتي مع الدكتور حبش . وقال لي إنها جرت في الشقة التي يسكنها عائلته وهي تبعد ثلاث دقائق بالسيارة من مكاتب مجلة " الهدف " وقلت له :
لقد ظننت أنها جرت خارج بيروت لأن مرافقي سلك طرقات كثيرة واستغرقت الرحلة نصف ساعة .
وأجابني : تلك هي " بيروقراطية الثوريين " وتلك هي الطقوس الأمنية المتبعة .
وتكررت بعد ذلك اللقاءات إنما بشكل غير مبرمج , ومن دون تحديد مواعيد. الذي كان يحدث هو أنه لمجرد أن يتوافر لدى الدكتور حبش يتصلون بي فأتوجه للقائه ومعي الحقيبة التي في داخلها آلة التسجيل والأشرطة والبطاريات . وكثيراً ما كانت اللقاءات تلغى قبل دقائق من الانعقاد لأن الدكتور حبش سافر فجأة إلى إحدى الدول العربية أو إحدى دول أوروبا الشرقية .
وفي ضوء ذلك فإن تسجيل اللقاءات استغرق بضع ساعات خلال بضعة أشهر .
وفي كل جلسة كان الدكتور حبش يزداد تألقاً ولمعاناً ويمعن في التواضع وفي التعبير بالكثير من الدقة إلى درجة أنه تمنى أكثر من مرة حدف بعض العبارات لأنه شعر أن فيها ما يمكن أن يخدش مشاعر رفاقه الذين انقسموا أو أحدثوا تجمعات ضده .
وكانت الأماكن التي تمت فيها المقابلات مختلفة . ولم يحدث أ، التقينا في مكان واحد مرتين اللقاء الأول في بيت الدكتور جورج حبش واللقاءات الأخرى في بعض مكاتب " الجبهة الشعبية " في " حي المزرعة " وحي الفاكهاني " . وكل مكتب له نكهته ويتميز عن الآخر .
وأعتقد أن أحد اللقاءات تم داخل المخيم . وكلها تمت ليلاً . وعندما وصلنا في التسجيل إلى مراحل متقدمة كان الوضع في بيروت بدأ يتوتر . ثم اندلعت الشرارة التي أحرقت مهابة الوطن والقضية والمخيمات وعنفوان المناضلين .
ولم يعد من الممكن أن نواصل التسجيل ..هذا مع الأخذ في الاعتبار أنه لو كتب للقاءات أن تتجدد فإن الأسئلة فيها كانت ستدور حول أكثر اللحظات تفجعاً في حياة العمل الفلسطيني .
ومنذ ذلك الحين أي منذ العام 1967 وأنا قلق على الأوراق التي تحمل نتيجة الأحاديث الطويلة مع الدكتور حبش . وسبب قلقي ليس فقدان الأوراق حيث أن هنالك نسخة عنها محفوظة في خزانة مصرف في أوروبا وأن الأشرطة مقفل عليها داخل خزانة مصرف في بيروت كان من بين المصارف القليلة التي سلمت من السرقة والنهب . إن سبب قلقلي هو الخوف من أن أنشر قصة الدكتور جورج حبش وذكرياته كما سجلتها معه , في زمن لا يتمكن فيها الدكتور جورج من قراءتها, خصوصاً أنني عندما فكرت بالتسجيل والكتابة كان همي الأساسي أن يكون صاحب الذكريات أول الذين يقرأونها .
ويبقى سؤال : لماذا النشر الآن وما القصد من تعبير " حكيم الثورة " ؟
والجواب عن ذلك هو : إن قراءة قصة الدكتور جورج حبش ضرورية الآن بمثل ضرورتها قبل بضعة أعوام . وتراثه في الزمن الفلسطيني المفجع الراهن يمثل ما يمكن اعتباره الموقف الذي يمكن أن يحسم أشاء كثيرة . وفي الماضي كان الاسم الحركي للدكتور جورج حبش هو " الحكيم " وذلك على أساس أنه طبيب . أما الآن وفي ضوء ما يحدث للثورة الفلسطينية فن كلمة الحكيم مأخوذة من حكمة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق