جورج حبش وذكريات كلية الطب
د. منير شماعة*
الدكتور جورج حبش يتنصف زملاء أيام الدراسة في الجامعة الأمريكية
قد أكون من القلائل الذين عرفوا جورج حبش قبل النكبة نكبة 1948 , ففي تشرين الأول سنة 1946 التقيت للمرة الأولى " بالحكيم عندما تسجّلنا في كلية الطب في الجامعة الأمريكية في بيروت وبقينا معاً إلى أن تخرجنا سنة 1951 , وشاءت الظروف آنذاك أن نسكن لمدة أربع سنوات في غرف متجاورة في المركز الثقافي البريطاني في رأس بيروت , فعلاقتنا كانت حميمة واستمرت بالرغم من الصعوبات الكبيرة أمام لقاءاتنا .
جورج حبش الشاب الوسيم ذو البسمة الخجولة والمتواضع بالرغم من تقدمه بدراسة الطب . ومن اللافت آنذاك أن هذا التفوق لم يقترن بجهد كبير وكأن الطب قصة سهلة لا تتطلب الكثير.
علاقتنا آنذاك كانت عادية جداً كزملاء صف وبمسكن واحد , نتحدث بجميع الأمور ولم تكن السياسة أهمها, أو نستمع إلى الموسيقى والحكيم كان من هواة الموسيقى وله صوت جميل .
ثم وقعت كارثة 1948 وكأنها زلزال هدم كل ما كان وأدخلنا بزمن لا علاقة له بالماضي . ترك جورج حبش كلية الطب متجهاً إلى فلسطين لتفقد أهله وبيته ورجع مرغماً بعد إلحاح أهله الشديد على مزاولته الدراسة . وهذه الزيارة المؤلمة لفلسطين قلبت جورج رأساً على عقب فبات وكأنه شخص لا علاقة له بالذي عرفناه من قبل . أخبرني آنذاك عن معاناته وعن مسيرته الطويلة من بلدته اللد حاملاً على كتفه طفلاً من شقيقته التي أصيبت برصاص الاسرائيليين والتي ما لبثت أن فارقت الحياة .
وما هي إلا أيام بعد رجوعه من فلسطين حتى انضم مع بعض زملائه إلى تجمع يشرف عليه الدكتور قسطنطين زريق والذي كان له الأثر الكبير في حياة وتفكير جورج حبش . ثم انتقل بعدها من العمل الفكري البحت وانضم إلى كتائب الفداء العربي حيث تدرب على حمل السلاح في مكان ما في بيروت .
ولن أنسى أبداً جلساتنا العديدة في مسكننا وهو يردد بتأثر عميق " يا منير إني من اللد وأريد الرجوع إلى اللّد بأي ثمن . هذا حق بسيط لأي إنسان في وطنه" . ومنذ ذلك الحين كرّس جورج حبش حياته كلها من أجل استعادة حقوق الشعب الفلسطيني . وولدت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من صلب حركة القوميين العرب التي تأسست في بداية الخمسينات .
كل ما أريد قوله عن جورج حبش , أنه بالرغم من عدم استطاعته تحقيق أحلامه يبقى الحكيم أشرف وأخلص وأصدق وأجرأ زعيم على الساحة الفلسطينية .
وقد تكون هذه الصفات النبيلة ذاتها هي التي أعاقت تحقيق أحلامه , إذ هُدد وحورب واضطهد وسجن من قبل بعض الأنظمة العربية المتخلفة . عشنا معاً تلك الفترة الدقيقة حيث تشاركت بعض الدول العربية باعتباره "إرهابياً" من الدرجة الأولى , وساهم في هذا الاعتقاد كل من إسرائيل والولايات المتحدة واتهم كل من صادق أو زامل أو أحب أو أيّد الحكيم , فأصبحنا أشخاصاً غير مرغوبين وعرضة لملاحقات الأجهزة الاستخباراتية في عدد من البلاد العربية .
والآن وبعد رحيل الحكيم والأمور على أسوأ حال من انقسامات وحروب داخلية في الساحة الفلسطينية , أشعر باليأس والفراغ لافتقاري إلى رجل يتصف بخلاص وتفاني وجرأة الحكيم .
د. منير شماعة : طبيب وناشط إجتماعي، وأحد زملاء الدكتور جورج حبش على مقاعد الدراسة في الجامعة الامريكية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق