عظمة جورح حبش انه مدرسة
صَلاح صَلاح
مدرسة خرّجت أجيالاً، ورسمت سياسات ثابتة ومبدأية، وأعطت نماذج من البشر قدوه ومثالاً يُحتذى به
العظماء بشر مثلنا يموتون لكن ذكراهم تبقى حيّه، لا يضير الرجال المميزين أن تغيب أجسادهم ولكن مآثرهم تبقى خالدة. فقدنا الحكيم الإنسان لكنه معنا دوماً حكيم الثورة. كان المحاور صاحب المواقف، مركز إستقطاب وإجماع وطني. دعى له ومجّد ذكراه "الأبونا" في الكنيسة وأشاد بمناقبيّته وقدّر مواقفه "الشيخ" في مجلس العزاء.
شيّعه ومشى خلف جثمانه وعزّى به كل الأطياف السياسية، معارضوه ومؤيدوه، الوطنيون والقوميون والماركسيون. أحزاب وشخصيات رسمية وشعبية قالوا به الكثير مما يستحق: حكيم الثورة وضميرها، الإسم الذي سيتحول إلى أسطورة، حارس الثوابت، رمز الشعب الذي لا يُقهر، عاش ومات من أجل شعبه، حامي الوحدة الوطنية، نموذج القائد الديمقراطي الوحدوي، من الرجال الذين يصنعون زمنهم. أما أنا فلم أجرؤ ولم أقوَ على الكتابة عن أبو الميس. خذلتني كل الكلمات كل التعابير كل المصطلحات لأصف ما أكنّه وأحمله في عقلي وقلبي ووجداني من حب وتقدير لمن رافقه على درب النضال الطويل. القائد الذي لا تستطيع إلاّ أن تنحني إحتراماً وتقديراً لكفاءته وأهليته، فهو الصديق الودود، المازح، وصاحب النكته (القفشة).
ينقد بقسوة، قد تؤلم أحياناً، لكنّه من موقع الناصح، المرشد كأب يحرص على تجنيب أولاده الوقوع في الخطأ ويوجّههم إلى طريق الصواب.
عذراً يا حكيم، طلب مني الرفاق في مجلس العزاء أن أتحدث عنك أمام المعزّين فرفضت، وكذلك فعلت عندما طلبت بعض وسائل الإعلام. لم أستطع؛ لعل السبب في ذلك هو نفس ما قاله مَن يلتقي معك بالكثير من مواصفاتك العزيز أبو ماهر/ أحمد اليماني عندما سأله المذيع في إحدى محطات التلفزة، يوم وصلنا نبأ إنتقالك إلى مجدك، ماذا تقول بجورج حبش؟ فرد متلعثماً، شبه منهار، تصدر الكلمات من بين شفتيه بصعوبة فائقة، رافعاً يده إلى صدره: إنّه حبيبي، مهما قلت فيه وعنه لا أوفيه حقه. نحن من عشنا معك بالسرّاء والضرّاء، ذقنا معاً حلوها ومرّها، كابدنا نفس المعاناه، وعرفناك عن قرب بكل صفاتك: القائد المتميز بجداره، المناضل المتواضع، الإنسان الرقيق المهذب، المعلّم الذي يتعلم من البسطاء من أبناء شعبه، الواثق من نفسه لكنّه لا يتردد من الإستماع للرأي الآخر وتفهم حيثياته وقبول الصواب فيه... نحن يا معلمنا وقائدنا ورفيقنا وصديقنا وحكيمنا لسان حالنا فيك ما قاله حبيبك أبو ماهر "مهما قلنا فيك وعنك لا نوفيك حقك". لكنّي لا أخفيك إني أشعر بفخر وإعتزاز، بفرح وسعادة، بحماس وجدّيه عندما أتذكر المدرسة التي كنت على رأس مؤسّسيها، مدرسة حركة القوميين العرب، حزب العمل الإشتراكي العربي، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
الدروس التي تعلمناها في هذه المدرسة هي أن نرفض الهزيمة، ولا نستسلم لواقع نجاح الحركة الصهيونية بإقامة كيانها على أرض فلسطين.
يجب أن نغضب، ونصرخ، ونتمرد، ونشير بأصبع الإتهام إلى من يتحمل المسؤولية، وننتقد بقسوه، لكن هذا لا يكفي، علينا بالعمل. نلعن الظلام ... نشعل شمعة، فكانت حركة القوميين العرب، بدأت مجموعة شباب بالكاد يزيد عددهم عن أصابع اليد الواحدة، لكنهم حققوا إنجازات، وربما الأصح القول إنتصارات تكاد تكون معجزات: بإنتشارهم على إمتداد الوطن العربي، بمساهمتهم الفاعلة بتحريك الشارع في الأردن وتنظيم مظاهرات لم يكن لها سابقة، ونجحت مع القوى الوطنية الأخرى عام 56 بأن تفرض على الملك حسين إقالة الضباط الإنكليز من الخدمة في الجيش وعلى رأسهم رجل المخابرات البريطانية واسع النفوذ كلوب باشا وإبعادهم خارج البلاد، وتشكيل حكومة وطنية برئاسة النابلسي وقفت إلى جانب مصر في مواجهة العدوان الثلاثي.
حفنه من الشباب تتغلغل في أوساط الجماهير العربية، وتلعب دور الطليعة في التصدي للأحلاف والمشاريع كحلف بغداد، ومشروع الدفاع عن الشرق الأوسط؛ التي كانت تستهدف منذ الخمسينات ولا زالت الهيمنة الإستعمارية على المنطقة العربية، وإلغاء هويتها القومية، ودمج الكيان الصهيوني في نسيجها الإقتصادي والسياسي والإجتماعي، وإحكام السيطرة على قناة السويس، وتطويق الإتحاد السوفييتي. وقد نجحت الحركة مع الأحزاب والقوى القومية في مناهضتها وإفشالها.
بعد النكبة مباشرة، وفي أوائل الخمسينات، حاولت الولايات المتحدة إختصار الصراع مع الكيان الصهيوني بإعتباره مشكلة لاجئين، وفي حلها يصبح الإعتراف بإسرائيل والصلح معها أمراً ممكناً. هكذا بدأت المشاريع تتوالى لدمج الفلسطينيين في البلدان المقيمين فيها أو تهجيرهم إلى بلدان أخرى توافق على إستقبالهم. أخطر هذه المشاريع، التي حملت أسماء مروّجيها: كلاب، جونستون، وهمرشولد. حركة القوميين العرب أول من تنبّه لها وحرّض أبناء المخيمات ضدها، وفضح أبعادها ومخاطرها بالبيانات والنشرات، والمظاهرات والإعتصامات والمؤتمرات. هذا السلاح السحري، سلاح الجماهير خاصة من أبناء المخيمات الذي إستُعمل بإسم الشباب العربي الفلسطيني هو الذي أسقط مشاريع الإسكان والتهجير والتعويض، وإنتقل باللاّجئ (النازح) من إنسان محبط، يائس، مهزوم، إلى مناضل، يتصدى ويقاوم ويدافع عن حقه بالعودة والتحرير، يرى "النكبة عار لا يغسله إلاّ الثأر". هذه المرحلة الهامة والخطيرة في تاريخ الحركة الوطنية يجري تجاهلها والتنكّر لها، علماً أن هذا النضال السياسي الجماهيري العنيد هو الذي أسس للمرحلة اللاّحقة، التي في رحمها تشكلت إحدى أنوية العمل الثوري المسلح "شباب الثأر" وقدّمت الفدائي خالد أبو عيشة أول شهيد على أرض الجليل، في سبيل "إسترجاع فلسطين"، وإستمراراً لها تشكلت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وإنطلقت الثورة الفلسطينية الحديثة، وبرزت ظاهرة الكفاح المسلح.
هذا الإنتشار الواسع للحركة المبني على معاداة الإستعمار ووجوب التصدي لإستغلاله وسرقته خيرات الشعوب، وللأنظمة الرجعية الموالية له، الخاضعة لهيمنته، وإكتساب شباب الحركة الوعي والمعرفة بأعداء أمتهم، والإرتقاء بمستوى الإلتزام والجدية والإستعداد للتفاني إلى أعلى مستوى من العطاء عند الأعضاء هو الذي أدى إلى أن يُفجّر فرع الحركة ثورة طردت الإحتلال البريطاني من اليمن الجنوبي، وتقود ثورة في ظفار، وتلعب دوراً مميزاً في إنطلاقة الثورة الفلسطينية، وتساهم في محاولات تغيير ثوري في العراق وسوريا.
شباب في العشرينات من عمرهم، رأسمالهم المادي لا يزيد عمّا يرسله لهم ذووهم كمصروف شخصي، لتغطية نفقات الدراسة، لكنهم يصدرون نشرة الثأر التي يتلقفها أبناء المخيمات بحماس وإهتمام شديدين، ويصدرون جريدة الرأي في الأردن ثم دمشق، وملحق فلسطين التابع لجريدة المحرر، ثم الحرية، ولاحقاً الهدف الناطقه بإسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. كل منها لعبت دوراً مميزاً مشهوداً في التعبئة والتحريض، وفضح سياسات أعداء وخصوم الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، وتزويد الأعضاء والقرّاء بالحقائق والمعلومات والتحليلات ما يكسبهم مزيداً من الوعي والإدارك لمجرى الأحداث وكيفية التصدي لها ومواجهتها. هي وسائل إعلام لمخاطبة كل الناس وتعكس إهتماماتهم، وتستجيب لهمومهم ومعاناتهم بصراحة ووضوح، لا ترض عنها الأنظمة القمعية وأجهزة مخابراتها المعادية للديموقراطية. فما أن يضيق الصدر بها في بلد حتى تنتقل إلى بلد آخر، أو تستعيض عنها بالتعاميم الداخلية والبيانات والنشرات التي توزع سراً.
ظاهرة أصبحت حالة على صعيد الوطن العربي بسرعة قياسية، ساهمت بقوة في نشر الوعي القومي، ولعبت بإمتياز دوراً في إحداث نهوض قومي حقق تغييراً ثورياً في الواقع العربي المهزوم، المتراجع، المستسلم أمام نجاح المشروع الصهيوني بإغتصاب فلسطين وإعلان قيام دولة إسرائيل.
هذه النواة الأولى الشابة، الطليعة وفي مقدمتها جورج حبش حققت إنجازات عظيمة. كيف حصل ذلك؟ كيف نجحت مجموعة صغيرة في تأسيس حركة على إتساع رقعة الوطن العربي، وتنجز ما تقدم وغيره الكثير؟
لأنها، كما أثبتت المعطيات، تفعل ما تقول، تناضل بعناد وتصميم، ترفض الواقع وتثور لتغييره بالوعي وقوة الإرادة. لأنها بكل بساطة تعطي القيمة الأكبر والأهم للإنسان، فهو الأداة التي لا تقهر عندما تصمم، وهو مفجر الثورة، ووقودها، وحتمية إنتصارها.
الإنسان الذي يتحلى بالقيم والتقاليد، المتفاني في سبيل ما يؤمن به ويناضل في سبيله. قضايا وطنه وشعبه فوق كل إعتبار، فلا ملذات ولا متع شخصية. مالُه ووقته وجهده يُسخّر مع رفاقه لنيل الأهداف التي يصبون إليها. لهم من التاريخ عِبَر، يستخرجون الدروس والتجارب مِمّن سبقهم من حَمَلة رايات الكفاح ضد الإستعمار والإغتصاب والهيمنة. لا يتنكرون لماضيهم بل هم إستمرار له، ومنه ومن الواقع يرسمون آفاق المستقبل. لهذا كانت نصيحة الحكيم التي لا يمل عن تكرارها القراءة، القراءة، القراءة، للماضي والحاضر لنشق طريقنا نحو المستقبل.
من مدرسة جورج حبش تعلمنا ضرورة تحديد العدو بدقة ووضوح: الإستعمار، الصهيونية وكيانها إسرائيل، والرجعية العربية. رؤية الترابط بين أطراف هذا الثالون، بدون أن يغيب عن الذهن إمكانية الإستفادة من اية تعارضات تفرضها مصالح كل منهم، أو في داخل كل منهم، على ألا يعني ذلك التقليل من التناقض الأساسي الذي يجب ان يبقى مع هذا الثالوث. "إعرف عدوك" كان الشعار الدائم الذي تناولته إصدارات حركة القوميين منذ نشرتها الأولى "الثأر" وما تلاها. بنفس الدقة والوضوح يجب أن نحدد من هم أصدقاءنا: الجماهير، المضطهدون والمقهورون، الذين يعانون الهيمنة والإستغلال، من إغتصبت أرضهم، ومَن يئنون فوق أرضهم ويُحرمون خيراتها هم أصحاب المصلحة في الثورة والتغيير. هم إرادة الحياة التي لا بد أن يستجيب لها القدر إذا نُظمت، وحُشدت طاقاتها، وتراكمت إمكانياتها.
من هنا كانت الحركة كإطار جامع ومؤطّر لقدرات الجماهير، ومحفّز لإمكانياتها الكامنة من خلال التنظيم السري، والأندية والمؤسسات العلنية، والإتحادات والروابط النقابية والمهنية، ووسائل الإعلام التعبويّة والتحريضية.
بعد ذلك نستطيع البحث عن الحلفاء والأصدقاء في العالم؛ مع من يتعرضون في بلدانهم لما نتعرّض له في بلداننا، ونلتقى معهم في نفس المصلحة في الثورة والتغيير. هل كنا نصل إلى ما نحن عليه اليوم على الصعيد العربي بشكل عام وفلسطيني بشكل خاص لو حافظنا على رؤيتنا الدقيقة وميّزنا بوضوح بين العدو والصديق، وحدّدنا الفواصل بين كل منهما بدون مواربة وخداع؟
هذا بعض يسير جداً مما تعلمناه من مدرسة الحكيم، أضعه بأهميتة القصوى أمام جيل الشباب، ليحفّز قدرتهم الهائلة على الإنتصار، في أقسى الظروف والمراحل. شعبنا، أمتنا، قضيتنا بأمس الحاجة للشباب في هذا الوقت بالذات. بأمس الحاجة لجيل جورج حبش الشاب. اليوم، اليوم، وليس غداً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق