عن الحكيم في ذكراه... وتخليدا لتراثه الفكري / بقلم الأستاذ وسام الرفيدي
في ذكرى رحيل القائد الحكيم، جورج حبش، لن نعيد كلمات مكررة لاكها الخطاب اليومي وما فتيء، بغض النظر عن مدى إخلاصه لفحواها! إنما ودون مقدمات نكتب ونقول : نحافظ على تراثه الفكري فنكون أخلصنا لتاريخه الزاخر بالنضال الوطني والقومي.
والحفاظ على تراثه الفكري يحيل على دعوة وتوضيح، أما الدعوة فهي لتجديد المشروع الوطني الفلسطيني وإعادة بناء أدواته التنظيمية بعدما أن انهار هذا المشروع بشطب الميثاق وإدارة الظهر للنضال المسلح ولفلسطين التاريخية، أو تقزم على أيدي القيادة الرسمية لدويلة" محمية"، وفي الحالتين غدى الناظم السياسي الوطني مفتقد.
أما التوضيح فهو ان الحفاظ على تراث الحكيم الفكري خطوة ليس القصد بها استفادة الباحثين والدارسين لتاريخ الفكر العربي المعاصر، وخاصة لجهة تأريخ المدرسة القومية الماركسية التي جسدها الحكيم بتراثه الفكري ونضاله الوطني والقومي، وهي مهمة غاية في الأهمية، إلا انه بالأساس"أي الحفاظ" يهدف إلى تشكيل قاعدة فكرية- تنظيمية لتجديد المشروع الوطني وإعادة بناء أدواته التنظيمية بعامة، وإعادة بناء اليسار الفلسطيني بخاصة، فهي، تاليا، مهمة نضالية بالأساس أكثر منها أكاديمية، فلسنا، نحن الذين ناضلنا بالاستناد لهذا التراث، بالنهاية فلسنا مثقفي أرشيف أو مكتبات بقدر ما حملنا ولا زلنا نحمل الهم المزدوج: هم الوطن المغتصب، وهم الكادحين الفقراء.
فأين يكمن ما نعتقده تراثا فكريا ثوريا للحكيم؟
1- انه ذلك الدور الريادي الذي لعبه الحكيم أولا ، عبر تنظيم القوميين العرب بداية ثم عبر تأسيس الجبهة الشعبية مع الفرق الأول، بإيجاد ذلك التزاوج بين بين الفكر الماركسي والفكر القومي.
استنادا لموقف ستاليني تقليدي تبلور في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي فقد أهالت الأحزاب الشيوعية التراب على مطمح الشعوب العربية بالوحدة القومية للشعوب العربية فلم تملك برنامجا واضحا، ولا سعت لبناء هيكل تنظيمي واضح يعكس أي اهتمام بالمسالة القومية، فبدت تلك الأحزاب وكأنها غارقة بقطرية برجوازية رسم معالمها اتفاق سايكس- بيكو الاستعماري وتم التعامل معه كقدر لا فكاك منه.
بالمقابل فعدائية الفكر القومي للماركسية والشيوعية، دون إغفال الموقف الشيوعي المؤيد لتقسيم فلسطين في التسبب بتعزز هذا العداء، من جهة، ومن جهة ثانية، غياب الموقف الطبقي الثوري عن الفكر القومي عموما، وتسلل نزعات قومية شوفينية في هذا الفكر، كل ذلك خلق شرخا بين الفكريين، وصل درجة العدائية في لحظات فارقة.
والحكيم، بالاستناد للفكر القومي الذي تسلح به، في الخمسينيات والستينيات، وإخلاصه الوجداني للمسألة القومية المتمثلة بمشروع الوحدة العربية، وتحليله لمسار تجربة هذا الفكر في الممارسة السياسية العربية وصل لقناعة سرعان ما دعى لتجسيدها وهي المزاوجة بين المحتوى التقدمي للفكر القومي، وهو حصراً حل المسألة القومية، عبر مشروع النهوض العربي وبناء دولة الوحدة العربية، والانحياز للفكر الثوري الماركسي وهدفه ببناء الاشتراكية.
لا نبالغ بالقول ان الحكيم وبتجربته وتراثه الفكري، وفي هذا الصدد تحديدا، قد عمل على تأسيس مدرسة في الفكر العربي المعاصر عنوانها المدرسة القومية الماركسية كان لها تأثيرها السياسي ليس على مستوى الفكر العربي فحسب بل وعلى مستوى الممارسة السياسية والكفاحية لفصائل العمل القومي واليساري على مستوى المنطقة العربي بالعموم.
فبتأثيرات تلك المدرسة، وعبر التحاور الرفاقيّن تغيرت برامج وتوجهات شيوعية كتوجهات الحزب الشيوعي اللبناني مثلا، وتأسست فصائل قومية ماركسية على امتداد الوطن العربي من المغرب حتى عُمان.
2- وباستثناء التجربة المحدودة للشيوعيين السودانيين، والعراقيين والجزائريين كأفراد لا كأحزاب، كان للشيوعيين العرب في طوال التاريخ الحديث والمعاصر موقفا نقديا، وصل بعض الأحيان عبر التعبئة لمستوى العدائية، تجاه امتشاق الماركسيين للسلاح.
ليس هذا بطبيعة الحال انتقاصا من النضالات والتضحيات البطولية لعشرات الآلاف من الشيوعيين في النضال ضد الأنظمة العميلة والامبريالية، ولكنه رؤية نقدية لطابع النضال الشيوعي العربي عبر عقود الذي انطبع بطابع النضال الجماهيري لا السياسي المسلح في ظروف كانت فيها الجماهير متعطشة لحمل السلاح ومقاومة أعدائها الطبقيين والقوميين.
ويبدو أن النزوع الثوري للفصائل الماركسية، وفي مقدمتها الجبهة الشعبية، لامتشاق السلاح هو ما حدا بالأدبيات السياسية لإطلاق اسم اليسار الجديد على تلك الفصائل تمييزا لها عن الفصائل الشيوعية التقليدية في الساحة العربي. وإذا كان من الصحيح ان بعض تلك الفصائل، منها الجبهة الشعبية في بداياتها، قد تعاملت بقداسة مثالية مع العمل المسلح، إلا ان ميزتها أنها تمكنت عبر تجربتها، من المزاوجة بين مختلف أشكال النضال مع إبقاء العمل المسلح في موقع الريادة منها.
3- لم تكن الجماهير لتجانب الصواب عندما كانت تتندر على الشيوعيين العرب بأنهم يرفعون مظلاتهم ان أمطرت في موسكو!!! فحس الجماهير العفوي، والناضج معا، اكتشف أن التبعية للموقف السوفيتي كانت سمة بارزة ولافتة في السلوك السياسي للشيوعيين العرب.
هنا بالذات تتجلى جرأة الحكيم والصف القيادي للجبهة الشعبية وبرنامجها المعروف: موافقة الأصدقاء السوفييت على الاعتراف "بإسرائيل" وحقها بالوجود لا يعني موافقتنا بل رفضنا لذلك الموقف، فأي موقف في العالم لا يمكن ان يكون بديلا عن رؤيتنا وقناعتنا بحقوقنا والوطنية في أرضنا.
لم يعرف الحكيم مساومة على هذا الصعيد، بل ذهب به الحد حد التعليق على بريسترويكا غورباتشوف آنذاك ان خاطب السوفييت علانية(( تعيدون النظر بكل شيء فأعيدوا النظر بموقفكم من تقسيم فلسطين واعترافكم بالكيان الصهيوني)). وقد كان لهذا الموقف النقدي من موقف السوفييت تأثيره على العديد من فصائل العمل اليساري العربي التي أعادت هي الأخرى موقفها وأعادت العلاقة مع السوفييت كما كان ينبغي أن تكون وكما أرستها الجبهة الشعبية من حيث الجوهر(( تحالف ونقد لا تبعية ولا انصياع!)).
4- ولعل الملمح الأخير في تراث الحكيم، هو ذلك العداء الذي لا يقبل القسمة على اثنين للمشروع الصهيوني الكولونيالي في فلسطين، والتمسك بفلسطين التاريخية من جهة، وبالحل الثوري للمسألة الفلسطينية من جهة ثانية((دولة فلسطين الديمقراطية كجزء من مجتمع عربي اشتراكي موحد))، دولة لا مكان فيها للمشروع الصهيوني ولا للحركة الصهيونية وكيانها، وان كانت تتسع لليهود بخصوصيتهم الدينية واللغوية.
وهذا الموقف الفيصل هو ما يضع الحد الفاصل بين موقف الهرولة في الفكر السياسي الفلسطيني من كامل التراب والتحرير، ثم دولة على أي بقعة، ثم دولتين وصولا للحكم الإداري ودولة المحميات المعزولة، وبين الموقف التاريخي المتمسك بتجليات المربع الأول للصراع: ارض محتلة يجب تحريرها أولا وقبل كل شيء بحيث تكون كل الجهود لمعركة التحرير لا للصفقات التي اثبت التاريخ الفلسطيني أنها لا تورث إلا المزيد من التنازل منذ العام 1974 عام شعار السلطة الوطنية وحتى العام 1993 عام أوسلو!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق