الأحد، 15 يناير 2012

شهادة بلال الحسن : جورج حبش ورسالته الباقية


جورج حبش ورسالته الباقية

بلال الحسن



سؤال لا بد أن نطرحه على أنفسنا، لأنه ينطوي على مضمون كبير.
لماذا بادر الفلسطينيون جميعاً إلى المشاركة في وداع الراحل جورج حبش؟ لماذا خرج الناس في المدن والقرى الفلسطينية في تظاهرات عزاء شعبية وداعاً للفقيد؟ لماذا حرص الفلسطينيون من جميع الاتجاهات، الدينية والقومية واليسارية، على المشاركة في جنّاز القائد الراحل؟ لماذا كانت الفصائل كلها موجودة في وداعه؟ لماذا أقدم الكتّاب العرب، من أصدقاء جورج حبش ومن خصومه، على الكتابة عنه في أيام رحيله؟

إنها ظاهرة تستدعي التوقف والدراسة. ظاهرة تستدعي التوقف لاستخلاص المعاني والدروس منها. ليس لأنها تتعلق برحيل قائد، بل لأنها تطرح علينا جميعاً مسألة القيادة، ومواصفات القائد، ومسؤوليات القائد، وخلق القائد، وممارسات القائد، والمواقف السياسية للقائد. فالمشاركات الجماعية الشاملة التي أشرنا إليها، لم تكن تحية توجه إلى شخص في يوم وداعه، بل كانت استفتاء على صفات هذا القائد وممارساته. كانت تقديراً وتقييماً لتلك الصفات والممارسات، وكانت استفتاء يجيب بنعم على كل تلك الصفات، ويجيب بلا على كل تلك المواصفات والممارسات التي تشذّ عنها لدى القادة الآخرين.

فالكتّاب حين كتبوا، والمناضلون حين تحدثوا عن خلقه الشخصي، تحدثوا جميعاً عن الاستقامة، والنظافة، والتعاطف مع الآخرين كباراً وصغاراً، والعيش سلوكاً وأداء حسب ما يطلب من الآخرين أن يكون سلوكهم وأداؤهم. قالوا جميعاً إنه كان تجسيداً لذلك، وسباقاً عليهم جميعاً في الأداء والتنفيذ. ولذلك.. لمسوا فيه الصدق، والتواضع، والانضباط، والتضحية، والبعد عن الإغراءات والمظاهر، وحاولوا أن يجاروه في ذلك، كل حسب استطاعته، فأحبوه كقائد، وكأخ، وكزميل، وكرفيق درب، وحزنوا على غيابه من أجل ذلك كله. حزنوا عليه شخصياً، وكأنهم خسروا فرداً من عائلتهم، خسروا أباً أو أخاً أو صديقاً عزيزاً. وأدركوا في لحظة الفراق المرّ، مدى أهمية الخلق والنظافة والتواضع والانضباط لدى القائد الكبير، وأدركوا دون أن يقولوا، مدى فداحة فقدان هذه الصفات لدى قادة آخرين، يعايشونهم، ويراقبون كيف يعيشون وكيف يمارسون، وبخاصة بعد أن باتت هذه المسألة في غاية الأهمية، في الواقع الفلسطيني الراهن، وحين بدأ المناضلون يفكرون بالأخذ بدل العطاء، وبالمكسب والربح بدل الإقدام والتضحية.

نقول كل ذلك من دون أن نقلل من القيمة الفكرية، أو من القيمة النضالية للراحل جورج حبش. فالرجل كان شديد الإيمان بأن قضية فلسطين هي قضية عربية، وهو حين جاء إلى النضال الفلسطيني المباشر من النضال القومي في «حركة القوميين العرب» التي لعب الدور الأبرز في تأسيسها وإطلاقها، جاء وهو مشبع بذلك البعد العربي للنضال الفلسطيني، ذلك البعد الذي يقف على النقيض من كل تلك النظريات التي تقول الآن، إن حل قضية فلسطين هو حل فلسطيني، وإن تطبيق ذلك هو في حل من نوع «اتفاق اوسلو» المنفرد.

وهو حين شعر بأنه أعطى كل ما يقدر عليه لـ«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، وكأمين عام لها منذ تأسيسها، لم يتردد في أن يتخلى عن موقعه هذا، مسلّماً الراية إلى المناضلين الذين اختارهم وهيّأهم لأداء الأدوار القيادية، فلبّوه ولم يخذلوه، شهداء وأسرى، من أبو علي مصطفى إلى أحمد سعدات. وحين تخلى عن دوره القيادي الأول، لم يذهب إلى بيته للراحة والاستجمام، بل كلّف نفسه بمهمة أشد وأقسى، فأنشأ مركزاً للأبحاث، وسعى لأن يجمع حوله كل طاقة فلسطينية أو عربية. وطرح على نفسه وعليهم سؤالاً واحداً كبيراً: لماذا فشلنا؟ لماذا فشلت الحركة الوطنية العربية في تحقيق الوحدة وبناء الاشتراكية؟ ولماذا فشلت الثورة الفلسطينية في إنجاز شعار التحرير؟

مات جورج حبش، وهو يطرح هذا السؤال على نفسه كل يوم، وعلى كل زائر يجلس إليه، مات وهو يأمل أن تتمكن مجموعة من الباحثين والمفكرين في تقديم إجابة عن هذا السؤال الكبير، ومن أجل التحرك نحو المستقبل من جديد.

لم يمت جورج حبش وهو يندب الماضي. مات وهو يتطلع إلى تحريك المستقبل. تحريكه بالفكر أولاً. ثم يأتي بعد ذلك دور الإرادة والنضال.وهذه هي رسالته التي يجب أن تبقى حية بين الناس.♦



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق