لمحات سريعة عن فكر جورج حبش
نصير عاروري
المرحوم الدكتور جورج حبش قائد فريد من نوعه، فهو مؤسّس، ومُنظّر، ومفكر، وصاحب أيديولوجيا كانت لها منزلة مرموقة في فكره ونشاطه السياسي. وقد ضمنت لهذا الفكر النير والنشاط الخلاق مسارا ثابتا متناسقا، وجنّبتهما الإرتجال والتكهن بدلا من العقلانية والمنطق.
وعلى غير ما نعرفه عن الكثير من القادة الفلسطينيين والعرب، فقد تمسك الحكيم بأيديولوجيته لأنها كانت توجه مساره السياسي، وتقوده إلى أهدافه وأهداف شعبه، وتساعده على تحمّل مسؤولياته.
الحكيم أول قائد فلسطيني تنحّى عن القيادة طوعاً، على نقيض الكثيرين من زملائه الذين نادرا ما يتركون القيادة إلا بسبب الموت أو العنف السياسي أو الأعمال التآمرية. ومن مميزاته أيضا أنه كان أول من رأى العلاقة المتينة بين فكرة القوميين العرب وقضية فلسطين في عام1948 حيث تبين له بوضوح أن الصراع على تراب فلسطين لم يكن مجرد قتال عربي- صهيوني وحسب بل يتعدى ذلك ليشمل المطامع الإستعمارية في منطقة الشرق الأوسط. ومن هنا، وَلَّدَت نكبة فلسطين فكرة »القوميين العرب« التي ركزت على أهمية الوحدة العربية، ورفض التشتت والضعف العربي. ومن هنا أيضاً تمكن القوميون العرب من رؤية التحالف بين الاستعمار الغربي والرجعية العربية وما يترتب عليه من تحالف بين الصهيونية والرجعية العربية بشكل فعلي.
وكما رأى الدكتور حبش البعدَ العربي للمسألة الفلسطينية، والديناميكية التي كانت تربط الفلسطينيين بالشعوب والأنظمة العربية، وتقيم بالتالي علاقة بين الصهيونية والرجعية العربية، فإنه كذلك رأى بعدا عربيا آخر للمسألة الفلسطينية عن طريق الرجعية العربية. وجاءت هزيمة 1967 تعالج التحديات التي واجهت الدكتور حبش والقوميين العرب منذ 1948، إذ بدأوا بطرح الأسئلة عن القيمة الفعلية للأحزاب السياسية العربية والجيوش العربية ومفهوم الدولة العربية في الوقت الذي حُطـِّمَت به تلك الكيانات في ستة أيام فقط. وكان من تلك الأسئلة الملحة آنذاك: هل آن الوقت لبروز نضال فلسطيني ضمن كفاح شعبي يتحدى تحالف الصهيونية والإستعمار والرجعية العربية؟ ألم تقتض الضرورة أن يتحوّل النضال إلى كفاح واسع يقوده الفلسطينيون في حرب تحرير طويلة الأمد تؤدي إلى القرار الفلسطيني المستقل؟
لكن حرب التحرير واستقلالية القرار الفلسطيني طُمِسا أثناء البحث عن القرار المستقل بحد ذاته، فبيان مؤتمر قمة الرباط عام 1974 وما تلاه من بيانات عربية صدرت بعد ذلك في مؤتمرات القمة المتلاحقة كلها كانت تعبّر عن استقلالية القرار الفلسطيني من خلال التأكيد على اعتماد منظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعيّاً وحيداً للشعب الفلسطيني. وقد كان ذلك يشكل القاسم المشترك الأعظم لتلك البيانات، لكن ما حدث فعلا هو صفقة مقايضة غير مدوّنة بين منظمة التحرير والأنظمة العربية تمتنع المنظمة بموجبها عن تصعيد العمل الثوري للفئات الفلسطينية المسلحة، وتستعيض عن ذلك بالنشاط الديبلوماسي و»النضال« السياسي بالاشتراك مع الدول العربية.
وبموجب هذه الصفقة بدأت الدول العربية بدعم النضال الفلسطيني اقتصاديا وسياسيا وديبلوماسيا من أجل الحصول على دويلة فلسطينية في الضفة الغربية تقوم -إذا قامت- على حوالي 20٪ من أرض فلسطين ما قبل النكبة. ومع هذه الصفقة انتهت فترة الكفاح الشعبي وحرب التحرير. وعلى عكس ما حدث في جنوب أفريقيا حيث أصرّت الثورة هناك على مواصلة الكفاح المسلح، وعدم الاعتراف بنظام الأبارتايد، تخلت الحركة الوطنية الفلسطينية عن الكفاح المسلح، بل تعاونت مع أعدائه من الرجعية العربية وحليفتها الصهيونية.
بهذا شكلت أواسط السبعينات منعطفا جديدا لحركة التحرير الفلسطينية، إذ كان من المستحيل أن يخوض الفلسطينيون نضالاً سياسيا محدودا يهدف إلى تحرير بقعة ضئيلة من الضفة الغربية فيما فُرض عليهم أن لا يخوضوا معارك عسكرية شعبية تحريرية ذات طموح أوسع وأهداف أوضح. وهذا ما أدى بالحركة الوطنية الفلسطينية إلى انكماش عبّرت عنه منظمة التحرير في بياناتها التي شملت على سبيل المثال »ميثاق الاستقلال« لعام 1988 الذي كَلّفَ الفلسطينيين اعترافَهم بإسرائيل، و»التخلي عن الإرهاب«،والاكتفاء بقطعة أرض صغيرة في الضفّة الغربية يطلقون عليها إسم فلسطين.
بالإضافة إلى »ميثاق الاستقلال« كانت هناك عدة بيانات صدرت عن مؤتمرات قمة ومشروعات مثل مشروع فهد، ومشروع ريغان، ومشروع شولتز وغيرها مما كان يُعرِّف السيادة تعريفا يبعدها عن الفلسطينيين. ثم وصلت تنازلات الفلسطينيين إلى ما وصلت إليه في اتفاقيات أوسلو التي حرمت الفلسطينيين من ممارسة السيادة على أية بقعة من الأرض واقعة بين نهر الأردن والبحر المتوسط، والاكتفاء بممارسة شكل من الحكم الذاتي في بانتوستانات الضفة الغربية.تنازلات الثمانينات والتسعينات رسّخت الخلاف بين الحركة التي كان يقودها جورج حبش وبين جماعة فتح وحلفائها. وهو خلاف أيديولوجي نظري ينبع من المبدأ، وخلاف على صعيد السلوك السياسي وشكل المفاوضات، وخلاف على أسلوب القيادة والأسلوب الاجتماعي والأخلاقي وطرق التعامل مع الناس.
وفي سياق هذا الفهم الأيديولوجي لطبيعة الصراع اهتمّ الحكيم بالبعد العالمي للمسألة الفلسطينية، فتنظيمه كان أول تنظيم ففلسطيني يقيم علاقات وطيدة مع قوى عالمية آزرت القضية الفلسطينية، ليس بشكليات التضامن، بل بالمشاركة في العمل النضالي. وعلى الرغم من ان القوى الاستعمارية اتهمت هذه القوى العالمية بالإرهاب فإن الدكتور حبش وزملاءه أفادوا من خبرات هذه القوى ومن استعدادها للتضحية في سبيل أهداف وأماني مشتركة.
وعلى نقيض قيادات فلسطينية وعربية أخرى فإن قيادة الحكيم كانت منفتحة بذكاء وحكمة تجاه الخارج تتبادل معه مايفيد الأهداف والأماني المشتركة.
كان الحكيم واثقا من ضرورة هذا التعاون والتبادل ذلك لأن البعد العالمي للحركة التي أسسها يتطلب مبادلة الأفكار وتداول الأمور التي تمس المصالح المشتركة.
ولم يتخلف الحكيم عن عقد الجلسات التشاورية وعن النقاش الحي لشؤون الساعة وتطورات الحقبة. وكثيرا ما كانيتحلى بالصمت، مفضلاً أن يستمع ويفكر ويبلور أفكاره بدلاً من نشر وتوزيع تلك الأفكار كأنها صادرة من منبر الوعظ.
هذا السلوك وهذا التركيز على ضرورة الإصغاء ميّز الحكيم عن كثير من زملائه في التنظيمات الأخرى من الذين لا يكفون عن إلقاء المحاضرات، الأمر الذي يعبر عن علاقات التبعية ويذكر بالفرق بين الرئيس والمرءوس.
وهنا أود أن أعطي مثلاً يعكس خبرة شخصية بهذا الموضوع. في هذا المثل تتجلى سمات الدكتور حبش وأسلوبه في ترتيب جلسات النقاش والتشاور:في صيف عام 1990 تلقيت وزميلي المرحوم الدكتور سميح فرسون أستاذ علم الإجتماع في الجامعة الأميركية بواشنطن دعوة لزيارة الأخ الدكتور جورج حبش في تونس للتداول في أمور الساعة. كان ذلك، بعد الاحتلال العراقي للكويت (آب 1990) وحشد القوات الأميركية في السعودية العربية. فهاهي الجيوش الأميركية رابضة على الأرض العربية تنتظر أوامر الرئيس جورج بوش (الأب) التي لم تكن معروفة بعد. وكان العالم العربي ومعه العالم بأسره يحبس أنفاسه في انتظار القرار، فإما أن تعبر جيوش بوش الكويت لطرد الجيش العراقي، أو ربما تطارد أفراد هذا الجيش وهم يتقهقرون إلى قواعدهم في العراق.
بعد أن هبطت الطائرة التي كانت تقلنا في مطار تونس، وبعد الإجراءات الأمنية وجوازات السفر، ركبنا السيارة التي أخذتنا إلى بيت متواضع في مدينة تونس حيث كان الحكيم وزوجته هيلدا بانتظارنا. وكان هناك شاب يقوم بالمهام اللازمة لاجتماعنا المزمع عقده. وقد قضينا ما يقرب من ساعة في ترتيب برنامج الأيام الثلاثة المقبلة حيث قسمنا موضوعات البحث إلى ستة، نعالج اثنين منها كل يوم، واحداً في الصباح وآخر بعد الظهر. هكذا ترأس الدكتور سميح ثلاث جلسات بينما ترأست الجلسات الثلاث الباقية. أما الحكيم فكان يستمع ثم ، بعد ذلك، يشارك في النقاش. لكنه لم يشارك في رئاسة أية جلسة.
وفي اليوم الأخير، قبيل انتهاء الندوة قلت: » يا أخونا الحكيم إننا نريد أن نسمع تحليلك أنت للوضع الراهن وإمكانيات المستقبل«. ولم تمض بضع دقائق حتى بدأنا نسمع تحليلاً أكاديميا متقناً، كأنه مكتوب. لكنني واثق من أن الحكيم لم يكتبه، بل إن كل ما قاله كان صادرا من عقل مفكر وقريحة واسعة وإلمام شامل بالموضوع. والدكتور حبش، في النهاية ليس بحاجة إلى من يمدح تمكنه من الأمور المتعلقة بالصراع العربية الإسرائيلي والتطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط، لكن ندوته كانت فعلا في غاية الإتقان والبساطة والتنظيم، وكانت ثرية في الشكل والمضمون. لقد كان من المؤكد أنه كان يريد أن يعرف منا أكثر مما كنا نريد أن نعرف منه.
وأكون مجحفا إذا ما قلت إن أحدا من زملاء الدكتور حبش في تونس لم يوجه إلينا سؤالاً عن إمكانية توسع العنف في منطقة الجزيرة العربية،ولكننا تلقينا الكثير من الآراء، والكثير من »المحاضرات« التي كانت إجمالاً تتسم بالتفاؤل وانتظار النصر القادم.لم يكن ذلك أسلوب الدكتور حبش أو أسلوب تنظيمه في يوم من الأيام، فموقع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الحركة الوطنية الفلسطينية كان لخدمة كل الشعب الفلسطيني دون استثناء، وليس لخدمة أطر تنظيمية أو فئوية أو حزبية. ولم يكن لخدمة أطر ضيقة بل للدفاع عن الصالح العام ووحدة الصف والوحدة العربية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق