الأربعاء، 11 أبريل 2012

غسان كنفاني ... براعم في ذلك الوقت / بقلم د .جورج حبش


غسان كنفاني ... براعم في ذلك الوقت /  د .جورج حبش


كتبت بمناسبة الذكرى الثامنة لاستشهاد غسان كنفاني



معرفتي بغسان تعود إلى منتصف الخمسينات, كانت حركة القوميين العرب تصدر مجلة "الرأي " في الأردن وقد اتخذت السلطات الأردنية قراراً بإيقافها بسبب التفاف قطاعات واسعة من الجماهير في الأردن حولها..فقررنا إصدارها في دمشق, وتهريبها ثانية إلى الساحة الأردنية, كان ذلك في عام 1954 أو 1955 لم أعد أذكر الآن بالضبط .
وفي دمشق كان من الطبيعي أن يلتف حول المجلة, مجموعة من الشباب الفلسطيني والعربي..وأذكر من هذه المجموعة الشابة..غسان كنفاني , وبلال الحسن,وفضل النقيب, وعصام النقيب, وأحمد خليفة..وبدا واضحاً أن هذه المجموعة من الشباب تتميز بالنباهة, وتمتلك حدا معينا من القدرات والطاقات, ولديها ارتباط وثيق بالقضية الوطنية..كانت هذه المجموعة من الشباب , براعم في ذلك الوقت , لم تفتح بعد ..
وغسان كان من أبرز وجوه المجموعة ..ومنذ ذلك الوقت كان متميزاً ,شاباً حيوياً,نضراً,يتوفر على روح من السخرية اللاذعة والمرح..واضح فيه العطاء..وافر المشاعر..أعتقد أن عمره في ذلك الوقت كان بحدود 19 سنة.. أحياناً كانت تجمعنا معاً لحظات ود صافية..طبعاً عدا أوقات العمل..وفي تلك اللحظات كان يحدثني عن فلسطين ..عن الهجرة..الأيام الأولى القاسية التي عاشها في دمشق..لم أعد أذكر كل تلك القصص بشكل دقيق..وفي ذلك الوقت كان يعمل – على ما أعتقد-ببيع الصحف..أو شيء آخر مشابه..
طبعاً حديث غسان عن نفسه,كان يأخذ شكل الحديث عن الجيل الذي ينتمي إليه، وبعد ذلك عمل مدرساً في أحد المخيمات الفلسطينية في دمشق وعلى الصعيد الأدبي,لا أدري إن كان له في ذلك الوقت إنتاج ما، ولكنني أذكر تماماً مساهمته في مجلة "الرأي" حيث لم تكن تقتصر هذه المساهمة على الأدب فقط..بعد ذلك حدثت فترة انقطاع في العلاقة بيننا, بسبب عودتي إلى الأردن عام 1956 , بعد طرد "كلوب" .
ظل اسم غسان كنفاني من ضمن مجموعة من أسماء الرفاق, المتميزين في الذاكرة, بسبب حضورهم الخاص و
عادت علاقتنا بعد فترة الانقطاع التي قضيتها بالأردن, مرة أخرى, أثناء عودتي إلى دمشق عام 1959, وفي هذا الوقت على ما أعتقدكان غسان قد عين مدرساً في الكويت .
جاء التزامه بحركة القوميين العرب, بعد فترة عمله في مجلة " الرأي" ..وسافر إلى الكويت ليعمل هناك وعندما يعود إلى دمشق في العطلة الصيفية كنا نلتقي, فيحدثني عن حالة الملل التي تصبه من جراء عمله في الكويت. كان يقول أن الكويت ليست في المكان المناسب له، وأنه يقوم بهذه المهمة مضطراً وأيضا كعادته, كانت له قصص من المعلمين..عن "الشيوخ" والأمراء لقد كان ظريفاً وقصصهدائماً لها معانٍ .
منذ ذلك الوقت كان حسه بالصراع الطبقي حاداً وقصصه الصغيرة وحكاياته التي كان يحدثني بها عن الوضع في الكويت كانت تعبر عن فهمه للصراع الطبقي.
أيضاً لا يخلو الأمر من حديث عن الأدب فكان يحدثني  ويضعني في جو مشاريعه الأدبية وأول عمل قصصي حدثني عنه القصة التي تحمل عنوان"موت سرير رقم 12"..إنني لا أزال أذكر ذلك..
الحرية ..ومحطة جديد من العلاقة
المحطة الجديدة على صعيد العلاقة بيننا  عندما قررت"الحركة" إصدار مجلة "الحرية" كان من الطبيعي جداً أن أفكر بغسان ، لقد حدثته أنا عن التفرغ بالحرية ومع مجيئه بيروت انفتحت أمامه آفاق العمل الصحفي والأدبي ، وفي لبنان تبلورت شخصيته وتفجرت طاقاته الأدبية وعلى ما أعتقد في عام 1946 قررنا إصدار نشرة "فلسطين" التي صدرت كملحق لجريدة " المحرر" اللبنانية فتولى مسؤوليتها غسان. وفي هذه الفترة بالذات بدأت ألمس ميوله الدراسية والنظرية المتعلقة باسرائيل ومشاريعها كانت رغبته واضحة في تتبع ذلك.
بعد فترة تأسست الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ولما كانت حاجتنا الماسة لإصدار مجلة اتجهت الأنظار إلى غسان والحقيقة أن غسان بادر إلى ذلك فجاء إلى الأردن  حيث كانت قيادة الجبهة  وطرح علينا مشروع المجلة وكلف بإصدارها فكانت مجلة الهدف.
ظل غسان يحضر إلينا بمعدل مرة أو مرتين في الشهر وطبعاً كنا نناقش وضع المجلة خطها السياسي ،توجهاتها، وهو كما هو معروف عنه كان يلتقط بذكاء ونباهة كل ذلك ويترجمه عملياً .
وفي هذه الفترة لعب غسان دوراً بارزاً في التعريف بالجبهة على الصعيد العربي والعالمي،  فهو بالإضافة إلى كونه رئيس تحرير "الهدف" كان الناطق الرسمي باسم الجبهة،ولقد لعب دوراً في إبراز خط الجبهة في أوساط العالم التقدمي ووثق علاقتنا مع قوى طليعية وتحررية عالمية أخرى... لم تكن المبادرة تنقص غسان .
علاقة حميمة في لبنان
علاقتنا الحميمة و القريبة توطدت عندما حضرت إلى لبنان،و كان ذلك في العام 1971 وتوفرت فرص مكثفة للقاء والحوار ، عدا تلك اللقاءات والاجتماعات التي كانت تنصب لمناقشة خط المجلة ومواضيع العمل السياسي والإعلامي المختلفة أذكر تلك الآحاد ( أيام الأحد)  التي كنت أقضيها مع غسان ضمن جو عائلي ، كان يسكن في الحازمي وكنت أذهب وعائلتي إلى بيته.
وهنا يحضرني مرح وتعليقات غسان التي كانت تبدأ عن " صحن السلطة " وتنتهي بآخر كتاب طالعه، من الصعوبة بمكان وصف غسان، كان يمتلك جانباً إنسانياً كبيراًيمازح فايز وليلى, ويتحدث لا ينقطع عن الحديث، وأذكر في تلك الفترة كان يقرأ بكثافة .
وأذكر مكتبته فقد عملها بشكل فني مدهونة بالأبيض ، و كانت مكتظة بالكتب ،وكان يقرأ بنهم وغزارة حتى لأستغرب كيف كان يجد الوقت الكافي لهذه القراءات ، وبالنسبة لي  كنت مشغولاً في ذلك الوقت  بحيث لا أجد الوقت للقراءة. لذا كنت أستفيد من لقاءاتي بغسان بالإضافة إلى ذلك كان يحدثني ويعرفني بالكتب الجديدة الصادرة ، أما اهتماماته في تلك الفترة فقد انصب على دراسة تاريخ النضال الفلسطيني والعربي دراسة معمقة. كان يلتقط أشياء جميلة وذكية من خلال هذه القراءات .
وكان يتابع بالإضافة إلى ما يصدر من كتب على الصعيد العربي والعالمي ما يصدر من أدبيات ونشرات عن الثورة الفلسطينية  متابعة دقيقة، ويضعني في جو هذه المتابعات .كان يسد فراغاً كبيراً بالنسبة لي .. يقرأ لي ويحدثني عن مشاريعه الأدبية، و كنت أعطيه انطباعي العام الشخصي عن قصصه ومشاريعه.
قبل استشهاده بفترة ليست طويلة, جمعنا جو عمل مزدحم ومكثف كان من ضمن اللجنة المكلفة بصياغة التقرير السياسي الصادر عن المؤتمر الثالث للجبهة .. وكانت فترة عمل مزدحمة ومكثفة نأتي صباحاًنقرأ ونكتب، نحذف هنا، ونشطب هناك، نتوسع..
أعتقد حدث ذلك في نيسان من عام استشهاده .وهذه الفترة كانت آخر فترة عمل من نوعها..

كان ديمقراطياً...وبالاجتماعات كان يرسم ..
..من الصفات المعروفة عن غسان أنه كان ديمقراطياً، فهو لا ينفعل عندما تأتي انتقادات الفروع على "الهدف" .قد يبدو منفعلاً ولكنه في الحقيقة يلتزم بالموقف الديمقراطي.وكان ملتزماً ولهذه الكلمة معناها الخاص خاصة في تلك الفترة، وصفة الالتزام صفة لا تنسى في غسان ، ومن كان يتسم بالانضباط والالتزام كان يعد ذلك أمراً هاماً..لقد كان التزامه حاداً فيما يخص القضايا المركزية الحاسمة.
في الاجتماعات كان أحياناً يرسم وأذكر لوحة الحصان التي رسمها في أحد الاجتماعات ومررها علي ،لم يكن يعتبر غسان الرسم فعالية هامة بالنسبة إليه كان يرسم لمجرد الرسم .
ويوم وفاته أذكر لا تزال بخاطري كنت مريضاً،و ومقيماً في خارج بيروت وقدر " الشباب"  خبر مثل خبر استشهاد غسان لا يمكن له أن يخفى ،فأرسلو "أبو ماهر" إلي .. قالي لي : " صار حادث مع غسان وهو الآن بالمستشفى ".طبعاً أدركت..
و كان أول شيء فعلته  أنني كتبت رسالة إلى "آني" ولا يزال يحز في نفسي  إن أوضاعي الصحية في تك الفترة لم تسمح لي بالمشاركة في جنازته..لقد كان غسان كبيراً قبل استشهاده، واستشهاده زاده كبراً..
غسان ...الرفيق الظريف
أحب غسان عائلته كثيراً، وخصوصاً أخته "فايزة " أم " لميس" التي هي أيضاً منحها الكثير من حبه ووقته, فقد كان يرسم لها صوراً، ويكتب لها الرسائل. كان يحب أخوته كثيراً، ومن نفسه كان يسخر كثيراً، وخصوصاً من مرض السكري الذي كان يعانيه.  كثيراً ما كان يحدثني ساخراً عن الأبر التي يتعاطاها ضد السكري.
وقبل استشهاده, كان ثمة تخوف من محاولة اغتياله, ولكن غسان من النوع الذي يحب عمله إلى درجة لا يمكن أن تحول دونه أية إجراءات أمنية .
الظرف, والمرح, والسخرية, كانت مزايا خاصة بشخصية غسان, وكثيراً ما كانت تطال نكاته الرفاق في المكتب السياسي  ، وخاصة الرفيق الشهيد ( وديع حداد ) الذي كان معروفاً بكثرة نسيانه. فكان غسان يدبج النكات عليه ويعطيها من خياله مستمداً هذه النكات من بعض الوقائع الصغيرة .
المفارقة التي يتحدثون عنها, بين شخصية غسان الوادعة, والمرحة وجسمه الناحل, وبين التزامه الشديد بالقضية, وإيمانه بالعنف الثوري طريقاً لحلها.أعتقد أنا أنها ليست مفارقة، فقد كان ثمة انسجام شديد بين هذين الوجهين .
نشر في مجلة الهدف رقم 496
تاريخ12/7/1980

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق