الأحد، 15 أبريل 2012

شهادة د. فضل مصطفى النقيب :زمـن الحكيـم (أيـام جـورج حبـش) ـ 2 .



زمـن الحكيـم (أيـام جـورج حبـش) ـ2

ما هي الصفات الشخصية التي نعرفها عن هذا الإنسان الاستثنائي؟
تعرفت الى جورج حبش وأنا في المدرسة الثانوية في سنة .1954 فقد كنت أنا ومجموعة من التلاميذ الفلسطينيين والسوريين في دمشق، أعضاء في جمعية سرية تناضل من أجل تحقيق الوحدة العربية وتحرير فلسطين، وكنا رأينا أعدادا من نشرة كانت توزع دوريا في المخيمات والمدارس الفلسطينية وتحمل اسم «الثأر» وتصدرها هيئة «مقاومة الصلح مع إسرائيل»، كما كنا متلهفين الى معرفة ما هي تلك الهيئة وكيف يمكن الاتصال بأعضائها. وفجأة وجدت أخي عصام، وكان قد تخرج حديثا من الجامعة، يحدث والديّ عن شخص يدعى الدكتور جورج حبش باعتباره القائد البارز لحركة سياسية جديدة تدعى «الشباب القومي العربي»، وأنه كان يصدر مجلة «الرأي» في عمان، لكنه، بعد ان أغلقتها الحكومة الاردنية ولاحقته، حضر الى دمشق، وهو يقوم حاليا مع مجموعة من الشباب القومي العربي بالإعداد لإصدار المجلة في دمشق
بعد نحو أسبوعين، بدأت مجلة «الرأي» تصدر في دمشق، وبدأ أخي عصام مع مجموعة من الشباب القومي العربي يعقدون اجتماعا أسبوعيا في بيتنا بصفتهم هيئة تحرير المجلة، فتعرفت الى الدكتور جورج حبش وهاني الهندي وعدنان فرج وفيصل الخضراء وغسان محاسني وثابت المهايني والحكم دروزة وبقية المجموعة، وكُلّفت مع بقية أعضاء الجمعية بتوزيع خمسين عددا من نشرة «الثأر» على طلاب المدارس، وبيع خمسة وعشرين عددا من مجلة «الرأي» للأصدقاء.
دُعيت بعد ذلك أنا وعدد من أعضاء الجمعية إلى تأليف حلقة من حلقات «الشباب القومي العربي»، وكان ذلك بداية انتسابي مع بعض أعضاء الجمعية الى حركة القوميين العرب، كما كان بداية زياراتنا اليومية لمقر مجلة «الرأي». وكان المقر عبارة عن غرفتين صغيرتين في الطبقة الرابعة من مبنى في شارع جمال باشا يقع في مقابل مبنى الهاتف الآلي، وهناك تعرفت الى غسان كنفاني وكان أنهى الدراسة الثانوية ويعمل مدرسا في الكويت، كما تعرفت إلى بلال الحسن وكان مثلنا لا يزال في المدرسة الثانوية. وكنت أنا وأحمد خليفة وبلال الحسن وقتادة الشريف وبضعة أصدقاء آخرين نهتم بالأدب والثقافة بصورة خاصة، فألفنا رابطة «الأدب والحياة»، وأخذنا نقوم بالإشراف على تحرير الصفحة العاشرة في مجلة «الرأي» الخاصة بالشؤون الثقافية، وهو ما جعلنا، تقريبا، نداوم يوميا في مكتب المجلة.
منذ البداية، كنا نشعر بمعنى خاص للساعات التي نمضيها هناك، ولا سيما حين يكون الدكتور جورج موجودا، وكان اسمه قد أصبح بالنسبة إلينا «الحكيم»، وهو الاسم الذي ينادي به الفلاحون في فلسطين طبيب الصحة.
كان في شخصية «الحكيم» جاذبية مميزة آسرة لأنك تشعر فور التعرف إليه بأنك تعرفت الى شخص مهم وغير عادي سيكون، في الوقت نفسه، صديقا لك، ومن دون حواجز بينك وبينه. لقد رأينا في شخصيته مزيجا ساحرا من النشاط والعفوية والأصالة لم نعهده من قبل.
وكان دائم الحركة والنشاط. فخلال وجوده في مكتب «الرأي» كان يمضي وقته كله في الكتابة او القراءة او الحديث مع الزوار، وعندما ينتهي، يترك المكتب لمزاولة نشاط آخر. ولا أعتقد أنني رأيته في تلك الأيام مرة واحدة جالسا من دون أن يكون منهمكا في عمل ما، كما كان يكرس طاقاته وإمكاناته كلها في أي عمل يقوم به مهما يكن ذلك العمل، وهو ما كان يشيع جوا من الحركة والنشاط من حوله، فترى الذين يعملون معه يجهدون ليقدموا ما عندهم من طاقات وإمكانات.
بالإضافة الى ذلك، كان عفويا وبسيطا في كل ما يقوم به، فعندما كان يتناول الطعام، مثلا، في مكتب «الرأي»، كان يجلس مع الشاب الذي يعمل أجيرا في المكتب ويأكل معه. وفي ذات مساء كنت وإياه وحيدين في المكتب وجاء أحد رجال السياسة فعرفني إليه وأشركني في الحديث الذي دار معه على الرغم من كون ذلك الزائر زعيم كتلة برلمانية كبيرة في مجلس النواب السوري وأنا طالب في المدرسة الثانوية.
وفي إحدى الأمسيات كنت في المكتب وحيدا أراجع بعض مواد الصفحة العاشرة، وكان الحكيم في الغرفة الأخرى يكتب المقالة الافتتاحية للعدد الجديد من المجلة. دخلت عليه لأرى إذا ما كان قد انتهى من كتابة المقالة كي أرسلها الى المطبعة في طريق عودتي إلى البيت، فوجدته يمسح دموعه بأصابع يده، وعندما لاحظ أني رأيت ذلك ابتسم وقال إن من عادته ان تدمع عيناه عندما يكون منفعلا من شيء ما، ثم تابع الكتابة. وبعد يومين صدر عدد «الرأي» الجديد وفيه افتتاحية عن المجازر التي ارتكبتها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني.
وكان في أحاديثه السياسية أكبر من السياسة. فعندما كان يتحدث عن القومية العربية كنت تشعر كأنه عاش في الزمن العربي الذهبي وبأنه يعرف أبطال التاريخ العربي كلهم معرفة شخصية.
وعندما كان يتكلم على الوحدة العربية كنت تحس كأنه سافر الى المستقبل العربي وعاش في دولة الوحدة ثم عاد ليحدثنا عما رآه. أما عندما يتحدث عن فلسطين فتحس كأنه ما زال يعيش فيها، ولم يتركها لحظة واحدة.
كان واضحا ان حديث الحكيم يحرك في أعماقنا شيئا ما، كما كان جليا ان تصرفاته تستنهض في نفوسنا طاقة ما. ولهذا أحببناه وأصبح كل واحد منا يعتقد ان الحكيم صديقه الشخصي.
في ربيع سنة 1956 شاركت في مخيم أقامه «الشباب القومي العربي» في برمانا في لبنان، فتعرفت الى شبان لبنانيين وعراقيين وفلسطينيين من الضفة الغربية، ووجدت ان الذين يعرفون الحكيم يتحدثون عنه بحرارة وحب، وهو ما يشير الى أنهم يشاركونني الشعور نحوه.
سافرت في مطلع 1959 للدراسة في الولايات المتحدة، وبعد حصولي على الماجستير عدت الى البلاد العربية لعامين، ثم سافرت الى كندا حيث حصلت على الدكتوراه وعملت استاذا في احدى الجامعات الكندية التي لا أزال أعمل فيها حتى اليوم. وطوال تلك السنوات، باستثناء فترة 1970 ـ ,1975 لم أنقطع عن رؤية الحكيم والتواصل معه باستمرار.
خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، كان الحكيم يقيم مع أسرته بدمشق، وفي أثناء زيارتي السنوية لأهلي كل صيف كان أخي أسامة (وهو من أقرب أصدقاء الحكيم منذ سنة 1956) يخبرني عن موعد لقائنا معه ونحن في الطريق من المطار الى البيت، ففي كل زيارة لدمشق كنت ألقاه عدة مرات، كما أنني التقيته في بيروت وعمان والكويت. وأحب هنا ان أتوقف عند أربع مناسبات فقط من تلك اللقاءات:
كانت المناسبة الأولى في بيروت في صيف سنة ,1975 وكنت قادما من كندا مع بدايات الاشتباكات التي أدت الى الحرب الأهلية، فذهبت على الفور مع الصديق نوبار لرؤية الحكيم في مقر الجبهة الشعبية في مخيم شاتيلا. كنت التقيت الحكيم أكثر من مرة بعد هزيمة 1967 وبعد تأسيس الجبهة الشعبية، ثم انقطعت عن لقائه خمسة أعوام حدثت في إبانها أحداث جسام انتقل فيها الحكيم من شخصية معروفة على نطاق العالم العربي الى شخصية معروفة على اتساع العالم. ولهذا، ذهبت الى ذلك اللقاء وأنا متلهف الى معرفة ما طرأ من تغيرات على الشخصية التي كنت أعرفها في الماضي عن كثب، ثم أصبحت أتتبع أخبارها على شاشات التلفزة الأميركية وعناوين الصحف العالمية. وكم كانت دهشتي وفرحتي عندما اكتشفت ان الحكيم لم يتغير.
لا أقول ذلك لأنه استقبلني وتحدث معي كأن الزمن لم يمر بعد لقائنا الأخير، وإنما لأن حديثي معه أعادني الى اجواء السياسة التي افتقدتها منذ أعوام. ففي بداية السبعينيات من القرن العشرين، حدث تغير كبير في طبيعة أحاديث رجال السياسة في العالم العربي. لقد اختفت أجواء النقاش والحوار والتفاعل التي كانت سائدة في الخمسينيات والستينيات، وحلت محلها أجواء الخطب والمحاضرات. لم أجتمع بقائد سياسي في تلك الفترة لديه تساؤل او شك في أي موضوع. كانت عملية الاستماع الى أي سياسي عملية صعبة مملة لأنها كانت في الواقع عبارة عن استماع الى خطاب سياسي. ولهذا، عندما وجدت الحكيم لا يزال يستمع أكثر مما يتكلم، ويطرح موضوعات تشغل باله وتثير في ذهنه تساؤلات، علمت انه ما زال قادرا على الشعور بالدهشة والحماسة لأفكار جديدة، وشعرت براحة نفسية كبيرة.
تحدثنا وتناقشنا وتناقلنا أخبار الأصدقاء المشتركين، وعندما هممت بالانصراف، وكانت الساعة قاربت العاشرة ليلا، قال إنه ذاهب أيضا الى البيت ويستطيع ان يوصلني بسيارته إلى الفندق. في الطريق، ونحن نمر بمنطقة شديدة الازدحام، توقفت السيارة بسبب عطل مفاجئ في احدى عجلاتها، فنزلنا منها ووقفنا على الطريق ننتظر ان يفرغ السائق من عملية تركيب عجلة أخرى. تبادلت مع نوبار نظرات قلق وترقب خوفا على سلامة الحكيم، بينما راح هو يتابع الحديث الذي كان بدأه في السيارة، وكان يسألني عن رأيي في مشكلة التضخم المالي التي كانت تعصف بالاقتصاد الأميركي في ذلك الوقت، ومن دون أن يبدو عليه أي قلق او ترقب.
ومع ذلك، عندما خلوت إلى نفسي في الفندق وجدت أن الحياة في خضم الأحداث والشهرة الإعلامية أحدثت تغييرا ما في شخصية الحكيم. لقد رسمت على وجهه مسحة حزن لم أعهدها في السابق. وأذكر أني ظللت لأيام، بعد ذلك، أسائل نفسي: هل جاء ذلك الحزن من أحداث السنين الماضية، أم أنه نذير الأعوام المقبلة؟
المناسبة الثانية كانت في صيف سنة 1980 في دمشق، عندما كنت أزور أهلي. ذات يوم جاء أخي أسامة مهموما وأخبرني ان وعكة صحية مفاجئة ألمت بالحكيم، وأنه سيحضر في المساء من بيروت الى دمشق لاجراء الفحوصات الطبية.
حضر الحكيم الى بيت أسامة في المساء ومعه زوجته هيلدا وأحد أصدقائه من الأطباء اللبنانيين. وعلى الفور أخذ يتحدث معي كعادته، بينما دخل أسامة وهليدا والطبيب غرفة أخرى لاجراء الاتصالات بالأطباء والمراكز الصحية من أجل الحصول على مواعيد إجراء الفحوص، وبعد أن فرغوا من ذلك انضموا إلينا واشتركوا في الحديث الدائر عن أوضاع المقاومة في لبنان.
في منتصف الليل تركت منزل أسامة عائدا إلى بيتنا وقد نسيت تماما ان الحكيم يعاني عارضا صحيا حتى إنه عندما سألني أبي عن وضعه الصحي لم أستطع ان أزيد على ما قاله لنا أسامة قبل ان ألتقيه. وتكرر ذلك الموضوع في ما بعد أكثر من مرة. ففي كل مرة أذهب لأرى الحكيم وفي نيتي الاطمئنان الى صحته، أعود وأنا أفكر في أشياء أخرى لا علاقة لها بصحته. وفي احدى تلك المرات أبديت لأخي أسامة استغرابي من ذلك الوضع، فابتسم وقال: «هكذا هو الحكيم». وبعد فترة تأمل أضاف قائلا:
«
كل من خاض تجربة التعذيب في السجون العربية يدرك أن السجين ينتصر في تلك التجربة على سجانيه عندما ينجح بينه وبين نفسه في عدم التفكير في مصير جسده باعتبار أنه فقد السيطرة عليه كليا وأصبح تحت سيطرة السجان. إن القدرة على ذلك التصرف تمنح صاحبها قوة لا متناهية من العزيمة والإصرار والقدرة على الصمود والتحدي... وبالمنطق نفسه، فإن الذي يميز الحكيم من غيره من القادة هو قدرته منذ البداية على حسم موضوع الشأن العام والشأن الخاص. فهو قادر على التصرف بدون أي اهتمام بقضاياه الشخصية، سواء أكانت مادية أم صحية، ولقد منحه ذلك التصرف قدرة هائلة على الاحتفاظ بمبادئه وقيمه وأخلاقه تحت أقسى الأوضاع...».
أما المناسبة الثالثة فكانت في صيف 1982 وفي دمشق ايضا. فقد أبحرت سفن المقاومة من بيروت بعد الحصار التاريخي الذي استمر ثلاثة أشهر، ووصلت السفينة التي تقل الحكيم الى شاطئ طرطوس، وجاء هو والمقاتلون الى دمشق.
لن أنسى أبدا لقاءه زوجته هيلدا وابنتيه ميساء ولمى. وكانت هيلدا ولمى تركتا بيروت وحضرتا الى دمشق قبل ذلك بأيام، ثم انضمت اليهما ميساء التي حضرت من المانيا الشرقية حيث كانت تدرس الطب في احدى جامعاتها. وفي تلك الأمسية تعرفت الى جانب من شخصية الحكيم لم أكن أعرفه في السابق وهو ما يتعلق بحياته العائلية.
كان في عيني كل من هيلدا وميساء ولمى فرحة حب جارفة خُيّل إليّ يومها أنه قادر على حماية الحكيم من شرور الأرض كلها، وخصوصا وأنا أرى ذلك الحب يكبر ويتضاعف في عيني الحكيم. بين العناق والقبل رأيته يمسح دموعه فعدت أعواما الى الوراء عندما كنت أراه يفعل ذلك وهو يكتب افتتاحية مجلة «الرأي».
كان واضحا لي أن الحكيم لم يكن يعتقد أنه سيخرج من بيروت حيا فيرى هيلدا وميساء ولمى مرة أخرى، فقد كان في عينيه فرح طفولي وكان مرحا ومتحمسا للكلام والحديث بطريقة اعادت الى ذاكرتي الحكيم كما عرفته في الخمسينيات. روى لنا قصصا حدثت في حصار بيروت عن بطولة المقاتلين، وعن امتنانه لبعض الأصدقاء ولتصرفاتهم ومواقفهم معه في الأوقات الحرجة، ثم انتقل بصورة عفوية وطبيعية الى الحديث عن عبد الناصر ولقائه الأول به، وذكر عشاءه معه في بيته في منشية البكري في القاهرة، وكيف كان يعيش في منزل بسيط ويرتدي ثيابا بسيطة ويتناول عشاء بسيطا ويتحدث بعفوية ودفء.
في الأيام التالية كان الحكيم يستقبل الزوار الذين حضروا ليسلموا عليه ويهنئوه بسلامة الخروج من الحصار. وكان بعض الزوار يسأله عن تصرفات بعض القادة الفلسطينيين في أثناء الحصار، وفي السؤال تلميح واضح يغمز من صلابة أولئك القادة. ومرة تلو الأخرى كان الحكيم يدافع عن الجميع ويرفض التعريض بأي واحد منهم، وأبعد ما وصل إليه هو القول ان الوضع لم يكن عاديا وإنما كان صعبا وبالغ التعقيد، ولذا يجب أخذ ذلك في الاعتبار عند تقويم تصرفات الآخرين.
تذكرت وأنا أستمع إلى رفض الحكيم المتكرر التعريض بتصرفات الآخرين كلمة قالها والدي قبل اكثر من عشرة أعوام وهي أنه لم يسمع الحكيم قط يتحدث بصورة شخصية عن أي إنسان آخر، وعدت بذاكرتي أحاول أن أعثر على استثناء لذلك فلم أجد. نعم، كان دوما يهاجم المواقف السياسية لكثير من القادة، لكنني لم أسمعه قط يتكلم بأسلوب التجريح الشخصي.
بعد أيام بدأت ألتقي الحكيم منفردا، وفي تلك اللقاءات ذكر لي، لأول مرة، أنه يفكر في أن يتنحى عن منصب الأمانة العامة للجبهة الشعبية في أول فرصة يجدها ملائمة. وشرح لي انه ينوي القيام بذلك لسببين: الأول، اعتقاده ان على القائد السياسي فسح المجال أمام العناصر الشابة بعد بلوغه الستين. والثاني، رغبته في ترك المسؤوليات اليومية والتفرغ لدراسة المراحل الماضية من النضال وتقويمها من أجل استخلاص الدروس والعبر منها. فقد كان مؤمنا بأن تجارب الماضي منذ بداية حركة القوميين العرب كانت تجارب غنية يجب دراستها ونقدها واستيعاب دروسها، كما يجب مواجهة المستقبل بثقة لا تتوفر إلا بعد هضم دروس الماضي كلها.
ما أثار استغرابي في تلك الجلسات هو حماسة الحكيم للدور الجديد الذي يطمح الى ممارسته وتكريس وقته له، وهي حماسة تنبع من كونه، اولا وقبل أي شيء آخر، تلميذا يحب ان يتعلم اشياء جديدة.
أما المناسبة الأخيرة فكانت قبل أشهر، وهي متعلقة بلقاء لم يتم في دمشق.
كنت في بيروت في أيلول/ سبتمبر 2007 عندما اتصل بي الحكيم من عمان وطلب مني لقاءه في دمشق من أجل التشاور في موضوع يخص أحد مشاريع مركز «الغد العربي للدراسات». ذهبت الى دمشق واتصلت به في عمان، لكنه لم يتمكن من الحضور إلا بعد يوم من عودتي إلى بيروت، فاتفقنا على اللقاء مرة أخرى بعد شهر.
وعندما ذهبت إلى دمشق في المرة الثانية وسألت أخي أسامة عن موعد مجيء الحكيم، فاجأني بقوله انه لن يتمكن من الحضور لأن وعكة صحية ألمت به. سارعت الى الاتصال به هاتفيا فردت عليّ هيلدا وشرحت لي وضعه الصحي، ثم أعطته سماعة الهاتف ليتكلم معي فتصرف كعادته التي أعرفها جيدا. لم يذكر كلمة واحدة عن مرضه بل راح فورا يناقشني في فحوى رسالة كنت كتبتها له من بيروت بالاشتراك مع أحمد خليفة ومحمود سويد تخص موضوعا كان كلفنا به. ثم بدأ يتحدث معي عن موضوع آخر يخص مركز «الغد العربي» كان طلب مني ومن بلال الحسن الاهتمام به. ويبدو ان حماسة الحكيم انتقلت إليّ فأخذت أتكلم بقوة وبتصميم، وفي النهاية قلت له مازحا: ها نحن يا حكيم، بلال وأحمد وأنا نعمل معك كما كنا أيام «الرأي». فانفجر بضحكة مجلجلة أعادتني فعلا الى أيام الشباب في أواسط الخمسينيات يوم كنت مع أحمد وبلال مسؤولين عن تحرير الصفحة العاشرة من مجلة «الرأي».
وضعت سماعة الهاتف وأنا أشعر بالفرح والسعادة، وتذكرت على الفور الإعجاب الذي كان يبديه كثيرون بقدرة الحكيم المستمرة على العمل والتفاؤل تحت أقسى الأوضاع.
ثالثا
كان كثيرون ممن تعاملوا مع الحكيم في الأعوام الأخيرة يدهشون من قدرته على الاستمرار في العمل اليومي ساعات طوالا في «مركز الغد العربي للدراسات» الذي أسسه وتفرغ له مباشرة بعد تخليه عن منصب الامانة العامة للجبهة الشعبية، وهو الذي جاوز الثمانين ويشكو وضعا صحيا صعبا.
وفي هذا المجال، أود ان اقول ان كل من عرف الحكيم عن قرب كان يعرف انه، الى جانب حسه الوطني المرهف واستعداده للتضحية من دون حدود، كان يحب عمله ويتمتع بتأديته على افضل وجه. فالعمل السياسي لديه لم يكن، كما كان لدى بعض الساسة الآخرين، التزاما تورط فيه في زمن الشباب والحماسة والبراءة، ثم لم يستطع التحرر منه بعد ذلك لانه وجد نفسه من دون مهنة اخرى تؤمن له ما يحصل عليه من العمل السياسي. ففي مراحل حياته كلها كان العمل السياسي لديه ناجما عن اختياره الحر اذ كان يملك دوما بدائل اخرى (لقد كان الاول في صفه عندما تخرج من كلية الطب في الجامعة الاميركية وبدأ حياته طبيبا، ثم ما لبث ان كرس عيادته لمعالجة المحتاجين من المرضى). ولذلك كان يمارس العمل السياسي بحب وشغف وتفاؤل. وأهم من ذلك، كان الحكيم، في العمل السياسي، يمثل حالة نادرة هي انه كان يعرف من هو، وماذا يريد، وما هي حدود دوره.
كان مناضلا ثوريا يعيش مرحلة الثورة المضادة، اي انه يعيش خارج شرعية الامر الواقع. وكان يريد ان يغير ذلك الواقع عن طريق تهيئة الاوضاع الموضوعية للقيام بحركة نهوض وطني شاملة تسحب الارض من تحت قوى الثورة المضادة. وكان يؤمن بحتمية الانتصار في تلك المهمة التاريخية مهما يطل الزمن، كما كان مدركا، في الوقت نفسه، ان ذلك الانتصار يحتاج الى اعوام، وانه شخصيا لن يعيش ليشهد زمن الانتصار. كان ايمانه العميق بأن ما يقوم به، يوميا، لتقريب ذلك الزمن كاف لان يمنحه الشعور بالرضى والحرية والسلام، هذا الشعور الذي كان نابعا من فهمه العميق لحركة التاريخ الانساني. فقد كان يؤمن بأن حركة التاريخ تسير، في المحصلة الاخيرة، الى الامام في اتجاه الحرية والتقدم، وان كانت احيانا تسلك طريقا متعرجا فيه انكفاء وتراجع. وكان ذلك الايمان يحميه من صقيع الزمن الرديء الذي نمر به، ويبعث في ضميره القدرة على تحدي هذا الزمن، والاصرار على النضال للوصول الى زمن تنتصر فيه مبادئ الحرية والعدالة والسلام.
كان من القلة النادرة التي تعيش دائما في المركز الحقيقي للأحداث، في قلب ارهاصات الثورة الانسانية المستمرة، ولهذا كان صوته يصل الى الفلسطينيين كلهم في المدن والقرى والمخيمات فيسمعون فيه صدى ما يجيش في قلوبهم وعقولهم ووجدانهم من ايمان وإصرار وتمسك بالعودة الى فلسطين.
كان صوت الحكيم صافيا مجانسا لموجات الاصوات الحقيقية التي تسمعها عندما تبرق العاصفة في جبل الجرمق فتضيء في سطور غسان كنفاني، وتلمع في أبيات محمود درويش، وتتلألأ في لوحات اسماعيل شموط، وتتفجر في خطوط ناجي العلي. ذلك الصوت الذي هو الصدى المدوي لصوت لا يكاد يسمع في هذا العالم هو صوت يتامى وأرامل وثكالى مخيمات جنين وجباليا وبلاطة والامعري وصبرا وشاتيلا وقرية قانا، الخ.
لقد تمكن الحكيم من الاحتفاظ بذلك الصوت طوال ستة عقود لانه كان يتمتع بصفة نادرة لا يتمتع بها الا الشعراء العظام، هي القدرة على سماع أصوات الصمت.
وهكذا أثبت جورج حبش انه اعظم الشعراء على الاطلاق، فقد سرق ضمير الشعب الفلسطيني طوال النصف الثاني من القرن العشرين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق