الخميس، 16 فبراير 2012

شهادة الراحل شفيق الحوت : جورج حبش أعطى ولم يأخذ!


                                   جورج حبش أعطى ولم يأخذ!
                                                                            شفيق الحوت

 كان جورج حبش، طالب الطب في الجامعة الأميركية في بيروت، في سنته الجامعية الثالثة، يوم تعرفت عليه وأنا في سنتي الجامعية الأولى في قسم العلوم، في الجامعة نفسها. كان ذالك في العام الدراسي (1948ـ 1949)، أي في السنة الأولى من عمر النكبة.
كان رفاقه ينادونه بـ "الحكيم"، تمييزاً له، باعتباره رئيس تنظيمهم السري المعروف بـ "الحركة"، أي حركة القوميين العرب. من رفاقه الذين واكبوه حتى النهاية، أذكر صديق عمره الشهيد وديع حداد، من فلسطين، والشهيد باسل  كبيسي، من العراق، وهاني الهندي، من سوريا، الذي نجا بأعجوبة من محاولة اغتيال تعرض لها وأدت إلى بتر ذراعه، وغيرهم كثيرون.
لم يكن الحركيون وحدهم النشطاء في الساحة الطلابية، فإلى جانبهم ومن حولهم كان هناك العديد من التنظيمات والثورات والأحزاب، غير أن أكثرها تأثيراً كان الحزب الشيوعي وحزب البعث والحزب السوري القومي الاجتماعي. وكان من الطبيعي أن يتلقف القدامى من الطلبة زملاءهم الجدد الوافدين من مختلف الأقطار العربية، بهدف تجنيدهم كأنصار أو حزبيين في أطرهم وحلقاتهم التنظيمية. وكانت قضية فلسطين في ذروتها، والحديث عن العودة السريعة والمعارك القادمة لا يزال سائداً، ولذلك حظيت باهتمام الجميع، واعتمدت كمحور أساسي لجذب المزيد من الأنصار والحزبيين.
ومن اللافت أن الطلبة الفلسطينيين كانوا الأكثر تلهفاً واندفاعاً في البحث عن دروب النضال القادرة على استعادة الوطن المغتصب واسترداد حقوق شعبه التي هدرت. وكانت "جمعية العروة الوثقى" و "مجلس طلبة الجامعة" من أهم المواقع التي يحتدم الصراع من حولهما بهدف تسلم القيادة في كل منهما. لقد كان الجميع يتبارون بما يصدر عنهم من نشرات وبما يطرحونه في المهرجانات من برامج وتطلعات وشعارات.
وشاءت أقداري أن أجد نفسي أقرب إلى الشيوعيين من غيرهم، إذ لفتني اهتمامهم بالقضايا الاجتماعية وتركيزهم على البعد الطبقي، بالإضافة إلى معاداتهم الشديدة للاستعمار، وبخاصة الاستعمار الأميركي. وكان يتزعم هؤلاء، طالب فلسطيني، اسمه منصور أرملي، قادم من شفا عمرو، وفي الكلية نفسها وفي الصف نفسه، مع جورج حبش، القادم من اللد.
من يومها، جورج وأنا، ونحن نستقل القطار نفسه المتجه نحو فلسطين، من دون أن يحالفني حظ مشاركته العربة نفسها. ومن المفارقات التي كثيراً ما تذكرناها معا، في ما بعد سنوات، وضحكنا منها أو على حالنا، كيف أنني كنت ماركسياً عندما كان هو "قومياً عربياً"، فلمّا اهتدى إلى الماركسية كنت قد اهتديت إلى العروبة!!
رغم ذلك، نمت بيننا صداقة صامتة، وترعرعت علاقتنا على الاحترام المتبادل  والإيمان المشترك بأن "الوطن" هو الأصل وهو الهدف، وأن الأيديولوجيات ليست إلاّ سبلاً لاسترداد هذا الوطن.
رحل جورج حبش، ولا شك أن شعب فلسطين سيفتقد هذا المناضل الصلب العنيد لأجيال وأجيال، وسيتحول اسمه مع الزمن إلى أسطورة تتحدث عن شبيه له سيظهر وسيتابع النضال ويكرر المشوار حتى تتحرر فلسطين وتسترد القدس.
من كثرة الموت الفلسطيني اليومي منذ عقود، فرغ قاموس المراثي من كلمات فقدت أثرها من كثرة تكرارها. فماذا عسانا نقول في جورج حبش غير ما قلناه في رجال من أمثال عبد الناصر وغيفارا وأبو عمار وأبو جهاد وأبو علي مصطفى وغيرهم وغيرهم من مئات، لا بل آلاف الشهداء الأبرار، وأواخرهم، وليسوا الأخيرين، شهداء تموز وآب 2006 في لبنان، وشهداء غزة والضفة في فلسطين، كل يوم وحتى هذه اللحظة.
إن أول ما يخطر على بالي من صفات راحلنا الكبير، أنه كان يتمتع بكاريزما لافتة منذ يفاعته. كان وسيماً كما تليق الوسامة بالرجال، وله عينان لافتتان في قدرتهما على نقل ما في وجدانه من مشاعر، وبخاصة تلك المتصلة بالعاطفة الودودة والنفس الرضية الواثقة والقادرة على إشاعة الطمأنينة في من يحيطون به في مجلسه، أو يلتقون به. وأظنه كان واعياً على ميزته هذه، فأحسن استثمارها، بشهادة كل من عرفه أو التقى به ولو لمرة واحدة.
لم يكن يكترث بلبسه أو هندامه، وكثيراً ما كنت أراه وقميصه متدلٍ فوق بنطاله، وأكمام قميصه مرفوعة فوق ساعديه بعفوية ملحوظة. أعتقد أنه كان يرغب أحياناً أن يوحي بأن وراء كل هذه الدعة التي تبدو عليه، خنادق للغضب والتصادم. وكان جورج، وبخاصة بعد تفرغه للعمل النضالي، شديد الحساسية بالنسبة للاجئين من أبناء شعبه، ويحاول جهده أن يحيا بتقشف وزهد لازماه حتى يوم رحيله. وهو في سلوكه هذا كان يسبح عكس التيار، إذ ينحدر من عائلة بورجوازية قادرة على تأمين مستقبله وضمان عيش رغيد له، لو اختارهو ذلك.
ولا بد لي من إبداء ملاحظة أجد نفسي محتاراً كيف أوردها من دون أن يساء فهمها. وهي تشير إلى شجاعة جورج في المضي بمشروعه النضالي القومي ـ رغم انتمائه الديني وسط محيط مسلم ـ  من دون أي إحساس بعقدة أو مشكلة. ولكن من يعرف شعب فلسطين وتاريخه يدرك ويفهم سر هذه الشجاعة، لأن هذا الشعب لم يعرف يوماً تعصباً دينياً، كما أنه من أكثر شعوب الأمة قومية وعروبة. ويشهد تاريخنا النضالي المعاصر على صدق هذه الشهادة، إذ لم تسجل طيلة العقود الأربعة الماضية، من عمر حركتنا الوطنية، أي اشتباك أو حتى سوء فهم بين الفلسطينيين لأسباب طائفية، رغم العديد من ا لاشتباكات المؤسفة التي وقعت بين الفصائل في الكثير من الأحيان.
وأمّا ثاني ما يخطر على بالي، فهو أن جورج حبش سجّل علامة فارقة في تاريخ حركة القوميين العرب المعاصرة. وإذا أمكننا القول بأن قسطنطين زريق كان الرائد الفكري لهذه الحركة، فلقد كان جورج حبش رائدها النضالي، دون أن نغفل ذكر رفاقه الأوائل.  بعد رحيله سيشار إلى حركة القوميين العرب بمرحلة ما بعد جورج حبش.
لقد كان جورج واحداً من المناضلين الرواد القلائل الذين عرفهم التاريخ العربي الحديث، ممن ثبتوا على مواقفهم من قضية فلسطين، ولم تزعزع الأيام عزائمهم وإصرارهم على متابعة النضال حتى النصر الحاسم، وبقي جورج مع شعار "الثورة حتى النصر"؛ وإن كان غيره ممن صاغوا هذا الشعار قد تخلوا عنه.
وثالث ما يجدر قوله وتثمينه غالياً أن جورج حبش هو الوحيد بين من عرفناهم من قادة هذا الزمن، رسميين وغير رسميين، الذي تنحى عن موقع الأول في تنظيمه (نظامه) وأفسح في المجال لاثنين من رفاقه أن يحلا محله في الأمانة العامة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، هما القائد الشهيد أبو علي مصطفى، والقائد الأسير أحمد سعادات. هو الوحيد.
أمّا آخر ما يجدر قوله، وهو ما يخجل الواحد من ذكره، لولا هذا الزمن الأردأ من الرديء الذي وصلنا إليه، هو أن جورج حبش من القلائل الذين "أعطوا" فلسطين كل ما لديه، ولم "يأخذ" في المقابل شيئاً له أو لمن حوله. فهو عندما رحل، لم يترك لأرملته وابنتيه ما يذكر من متاع هذه الدنيا سوى مأوى متواضع، ما كان ليتأمّن لولا مساهمة م. ت. ف والجبهة وبعض أصدقائه في تسديد ثمنه.
هل كان قديساً، أو ضميراً، أو ظاهرة، أو.. أو..
لا هذا ولا ذاك، كان جورج حبش مناضلاً من فلسطين كما يجب أن يكون عليه المناضل. ويكفيه فخراً أنه أعطى الكثير ولم يأخذ شيئاً.
-----------------------  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق