الحكيـم يمـوت مرتيـن
طلال سلمان
عند «كنيسة التفاهم»
ـ مار مخايل ـ أحد مداخل الضاحية الجنوبية لبيروت، نفسه كمدخل لهذه الكلمات التي
كانت مكرّسة لوداع أحد قديسي الحلم العربي في تحرير فلسطين بالوحدة، أو في
الوصول إلى الوحدة العربية عبر الممر الإجباري، تحرير فلسطين: الدكتور جورج حبش.
لقد عاد زبانية الفتنة إلى الشوارع ببنادق القتل عن بُعد، ومن خلف ظهر الجيش، لتحوير طبيعة الصراع السياسي وتحويله إلى اقتتال أهلي، وهو ما نخاف منه على لبنان، هنا، بقدر ما نخاف منه على فلسطين التي في حدقة العين، والتي أعطاها «الحكيم» عمره وكل جهده واجتهاداته منذ نعومة أظفاره في اللد، مروراً ببيروت التي تخرّج من بعض جامعاتها طبيباً برتبة مناضل، فإلى القدس التي التقى فيها شريكة عمره وجهاده السيدة هيلدا، فإلى عمان التي انطفأ فيها بعدما هدّه اليأس قبل أمراضه الكثيرة.
عاش جورج حبش حياته على أنه بعض «فلسطين»: هي شرط وجوده بقدر ما هي العروبة شرط بقاء فلسطين لأهلها، قضية تحرر ووحدة. ولأنه عاش دائماً داخل حلمه فإنه قد رحل بعدما ضاق عليه حلمه الذي لم يغادره أبداً.
ولعل مما عجل في رحيل هذا المقاوم العريق تلك الصور التي تسنى لجورج حبش أن يراها، قبل أن ينطفئ نور عينيه، للفلسطينيين من أهالي غزة وهم يُسقطون الحدود المصفحة مع مصر، في محاولة عنوانها الرغيف أما هدفها المضمر فهو استعادة شعب مصر الذي قدم لفلسطين من أبنائه مثل ما قدمت وأكثر. لقد رأى اللاجئين (تكراراً) في وطنهم (وقد ضاع منهم) يقتحمون الحدود طلباً لمصر وسائر أهلهم في الدول الكثيرة، تلك الغارقة في الذهب حتى التيه، وتلك المغرقة في دماء أبنائها بالاحتلال الأميركي، وتلك التي انفرد بها حكامها فأغلقوا أبوابها على شعبها وأوهموه أن خلاصه بتنصله من هويته وأعبائها، وكأن العزلة هي أقصر الطرق إلى الرفاه والتقدم والديموقراطية.
مع الحديث عن جورج حبش، تتداعى فوراً أسماء رفاق السلاح سواء الذين سبقوا إلى الشهادة أو ينتظرون، و«أخطرهم» الدكتور وديع حداد، الذي أدخل أساليب عبقرية جديدة إلى الكفاح المسلح، برغم أنها مسّت بقداسة القضية، ثم هاني الهندي، وأبو ماهر اليماني وأولئك الذين بنوا معه حركة القوميين العرب وفيهم العراقي والسوري واللبناني والكويتي واليمني إلخ...
ولفترة، بدا وكأن هذه الحركة قد نجحت في إعادة وصل ما انقطع بين «الأخوة العرب»، وأسهمت في إحياء الأمل ببناء الوحدة العربية، خصوصاً وقد انتشرت خلاياها في مختلف الأقطار العربية، مشرقاً ومغرباً.
لكن مقدمات الهزيمة العربية في حرب ,1967 بعد الانفصال الذي دمر أول وحدة عربية (الجمهورية العربية المتحدة) أخذت «الحكيم» والتنظيم إلى مدى آخر، (فهرب» من القومية إلى الماركسية ـ اللينينية، مفترضاً أنها قد تقرّبه أكثر من الطبقات الشعبية المؤهلة لخوض حرب التحرير، وهكذا وُلدت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، على أنقاض «الحركة».
وباختصار فإنه قد جرّب الوصول إلى فلسطين عبر كل الطرق المتاحة: من عمان الأقرب بالجغرافيا، إلى دمشق الأقرب بحس الانتماء القومي، من بيروت الأقرب بحرية السلاح، من طرابلس القذافي قبل أن «يهاجر» فكرياً إلى نظريته الخاصة... ولكن دائماً من القاهرة الأقوى بدولتها متى ارتفعت فيها راية العروبة التي تم تهجيرها منها بعد وفاة جمال عبد الناصر، وبعد إجهاض النتائج الباهرة لحرب العاشر من رمضان التحريرية إلى غربة الصلح المنفرد...
هل من الضروري التذكير بالمأساة الدموية التي نجمت عن «التحول الفكري» المريع الذي أخذ «القوميين السابقين» في عدن إلى المذبحة تحت الرايات الحمراء لماركسية مبتدعة، كانت مهمتها الفعلية تغطية السبق إلى السلطة بتبريرات ليس لها علاقة بأهل البلاد، البؤساء في فقرهم، ولا بثورتهم ضد المحتل البريطاني (في جنوب اليمن) ولا بطموحهم إلى العودة إلى وطنهم الطبيعي: اليمن.
لم يكن جورج حبش سياسياً، بالمعنى المألوف للكلمة، في أي يوم. ربما لهذا لم يتحرج من تبديل الإيديولوجيا، ولكن دائماً بهدف استنقاذ الحلم: تحرير فلسطين أو استعادتها.
لكنه عاش مناضلاً في مختلف الساحات. وعاش دائماً حيث يفرض عليه النضال.
أذكر أنني التقيته ذات شباط، في «الكريمة» في غور الأردن. كان ضيفاً على بعض الفلاحين الذين أفرحهم أن يصيروا أدلاء لأبنائهم الفدائيين وهم يعبرون «الشريعة» إلى أرضهم التي يعرفونها بالشجرة والصخرة والمصباح الخافت والمحدلة على السطح الترابي.
قال واحد من الفلاحين مخاطباً «الحكيم» وصحبه: يمكنكم أن تهتدوا بآثار أقدام الصحابة من قادة جيش الفتح. من هنا عبروا وهم في طريقهم إلى بيت المقدس، ومن هنا عبروا ثم أقاموا طيلة حصار دمشق، وكثير منهم قضى نحبه ودفن هنا، في هذه الأرض المباركة خلال الحصار، لأن الطاعون ضرب دمشق وأهلها وأصاب من قادة جيش الفتح ومقاتليه الكثير فماتوا ودفنوا في هذه الأرض، وأقربهم إلينا هنا شرحبيل بن حسنة.
قال «الحكيم»: نتمنى على الله أن يكتب لنا الشهادة مثلهم من أجل تحرير الأرض.
وأذكر أنني التقيت وأنا عائد من لقائه في منطقة جامعة بيروت العربية، ذات يوم من أواسط السبعينيات، الشاعر الكبير محمود درويش، فسألني بأسلوبه المميز: هل ما زال الحكيم يستوطن البديهية؟ ولم يكن بحاجة إلى جوابي للتصديق على حكمه... الثقافي.
وأعرف أن كثيراً من أهل الرأي ورجال السياسة كانوا يعودون من اللقاء مع «الحكيم» آخذين عليه تمسكه بالمواقف المبدئية المجافية لضرورات السياسة. وكان جورج حبش يستغرب اعتراضهم، ويفترض ـ صادقاً ـ أنهم المخطئون، وأن التجربة ـ لا سيما في مواجهة إسرائيل، ومن يتهاون في حربها ـ ستكشف لهم مدى غلطهم، محذراً من «أنك إن لم تواجه العدو فإنه سيأتيك في قلب دارك».
الحزن عربي أسمر، له ملامح جورج حبش الذي كانت انتكاساته الصحية تعبيراً عن خيبات الأمل المتكررة، وعن نتائج الانحراف السياسي وإضاعة الطريق إلى فلسطين.
ومؤكد أن «الحكيم» سيرفع صوته محتجاً، من قلب مثواه الأخير، معترضاً على إعلان رئيس «السلطة الفلسطينية» الحداد ثلاثة أيام على رحيله، وهو في الطريق إلى القدس المحتلة للقاء رئيس الحكومة الإسرائيلية بينما جماهير الفلسطينيين المجوعين بالحصار المذل يقتحمون الحدود مع مصر لشراء كفافهم من الخبز.
مات جورج حبش مرتين: الثانية لأنه دفن خارج أرض فلسطين. لكن «الوحدوي» فيه سيصبر... كما في حياته.
لقد عاد زبانية الفتنة إلى الشوارع ببنادق القتل عن بُعد، ومن خلف ظهر الجيش، لتحوير طبيعة الصراع السياسي وتحويله إلى اقتتال أهلي، وهو ما نخاف منه على لبنان، هنا، بقدر ما نخاف منه على فلسطين التي في حدقة العين، والتي أعطاها «الحكيم» عمره وكل جهده واجتهاداته منذ نعومة أظفاره في اللد، مروراً ببيروت التي تخرّج من بعض جامعاتها طبيباً برتبة مناضل، فإلى القدس التي التقى فيها شريكة عمره وجهاده السيدة هيلدا، فإلى عمان التي انطفأ فيها بعدما هدّه اليأس قبل أمراضه الكثيرة.
عاش جورج حبش حياته على أنه بعض «فلسطين»: هي شرط وجوده بقدر ما هي العروبة شرط بقاء فلسطين لأهلها، قضية تحرر ووحدة. ولأنه عاش دائماً داخل حلمه فإنه قد رحل بعدما ضاق عليه حلمه الذي لم يغادره أبداً.
ولعل مما عجل في رحيل هذا المقاوم العريق تلك الصور التي تسنى لجورج حبش أن يراها، قبل أن ينطفئ نور عينيه، للفلسطينيين من أهالي غزة وهم يُسقطون الحدود المصفحة مع مصر، في محاولة عنوانها الرغيف أما هدفها المضمر فهو استعادة شعب مصر الذي قدم لفلسطين من أبنائه مثل ما قدمت وأكثر. لقد رأى اللاجئين (تكراراً) في وطنهم (وقد ضاع منهم) يقتحمون الحدود طلباً لمصر وسائر أهلهم في الدول الكثيرة، تلك الغارقة في الذهب حتى التيه، وتلك المغرقة في دماء أبنائها بالاحتلال الأميركي، وتلك التي انفرد بها حكامها فأغلقوا أبوابها على شعبها وأوهموه أن خلاصه بتنصله من هويته وأعبائها، وكأن العزلة هي أقصر الطرق إلى الرفاه والتقدم والديموقراطية.
مع الحديث عن جورج حبش، تتداعى فوراً أسماء رفاق السلاح سواء الذين سبقوا إلى الشهادة أو ينتظرون، و«أخطرهم» الدكتور وديع حداد، الذي أدخل أساليب عبقرية جديدة إلى الكفاح المسلح، برغم أنها مسّت بقداسة القضية، ثم هاني الهندي، وأبو ماهر اليماني وأولئك الذين بنوا معه حركة القوميين العرب وفيهم العراقي والسوري واللبناني والكويتي واليمني إلخ...
ولفترة، بدا وكأن هذه الحركة قد نجحت في إعادة وصل ما انقطع بين «الأخوة العرب»، وأسهمت في إحياء الأمل ببناء الوحدة العربية، خصوصاً وقد انتشرت خلاياها في مختلف الأقطار العربية، مشرقاً ومغرباً.
لكن مقدمات الهزيمة العربية في حرب ,1967 بعد الانفصال الذي دمر أول وحدة عربية (الجمهورية العربية المتحدة) أخذت «الحكيم» والتنظيم إلى مدى آخر، (فهرب» من القومية إلى الماركسية ـ اللينينية، مفترضاً أنها قد تقرّبه أكثر من الطبقات الشعبية المؤهلة لخوض حرب التحرير، وهكذا وُلدت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، على أنقاض «الحركة».
وباختصار فإنه قد جرّب الوصول إلى فلسطين عبر كل الطرق المتاحة: من عمان الأقرب بالجغرافيا، إلى دمشق الأقرب بحس الانتماء القومي، من بيروت الأقرب بحرية السلاح، من طرابلس القذافي قبل أن «يهاجر» فكرياً إلى نظريته الخاصة... ولكن دائماً من القاهرة الأقوى بدولتها متى ارتفعت فيها راية العروبة التي تم تهجيرها منها بعد وفاة جمال عبد الناصر، وبعد إجهاض النتائج الباهرة لحرب العاشر من رمضان التحريرية إلى غربة الصلح المنفرد...
هل من الضروري التذكير بالمأساة الدموية التي نجمت عن «التحول الفكري» المريع الذي أخذ «القوميين السابقين» في عدن إلى المذبحة تحت الرايات الحمراء لماركسية مبتدعة، كانت مهمتها الفعلية تغطية السبق إلى السلطة بتبريرات ليس لها علاقة بأهل البلاد، البؤساء في فقرهم، ولا بثورتهم ضد المحتل البريطاني (في جنوب اليمن) ولا بطموحهم إلى العودة إلى وطنهم الطبيعي: اليمن.
لم يكن جورج حبش سياسياً، بالمعنى المألوف للكلمة، في أي يوم. ربما لهذا لم يتحرج من تبديل الإيديولوجيا، ولكن دائماً بهدف استنقاذ الحلم: تحرير فلسطين أو استعادتها.
لكنه عاش مناضلاً في مختلف الساحات. وعاش دائماً حيث يفرض عليه النضال.
أذكر أنني التقيته ذات شباط، في «الكريمة» في غور الأردن. كان ضيفاً على بعض الفلاحين الذين أفرحهم أن يصيروا أدلاء لأبنائهم الفدائيين وهم يعبرون «الشريعة» إلى أرضهم التي يعرفونها بالشجرة والصخرة والمصباح الخافت والمحدلة على السطح الترابي.
قال واحد من الفلاحين مخاطباً «الحكيم» وصحبه: يمكنكم أن تهتدوا بآثار أقدام الصحابة من قادة جيش الفتح. من هنا عبروا وهم في طريقهم إلى بيت المقدس، ومن هنا عبروا ثم أقاموا طيلة حصار دمشق، وكثير منهم قضى نحبه ودفن هنا، في هذه الأرض المباركة خلال الحصار، لأن الطاعون ضرب دمشق وأهلها وأصاب من قادة جيش الفتح ومقاتليه الكثير فماتوا ودفنوا في هذه الأرض، وأقربهم إلينا هنا شرحبيل بن حسنة.
قال «الحكيم»: نتمنى على الله أن يكتب لنا الشهادة مثلهم من أجل تحرير الأرض.
وأذكر أنني التقيت وأنا عائد من لقائه في منطقة جامعة بيروت العربية، ذات يوم من أواسط السبعينيات، الشاعر الكبير محمود درويش، فسألني بأسلوبه المميز: هل ما زال الحكيم يستوطن البديهية؟ ولم يكن بحاجة إلى جوابي للتصديق على حكمه... الثقافي.
وأعرف أن كثيراً من أهل الرأي ورجال السياسة كانوا يعودون من اللقاء مع «الحكيم» آخذين عليه تمسكه بالمواقف المبدئية المجافية لضرورات السياسة. وكان جورج حبش يستغرب اعتراضهم، ويفترض ـ صادقاً ـ أنهم المخطئون، وأن التجربة ـ لا سيما في مواجهة إسرائيل، ومن يتهاون في حربها ـ ستكشف لهم مدى غلطهم، محذراً من «أنك إن لم تواجه العدو فإنه سيأتيك في قلب دارك».
الحزن عربي أسمر، له ملامح جورج حبش الذي كانت انتكاساته الصحية تعبيراً عن خيبات الأمل المتكررة، وعن نتائج الانحراف السياسي وإضاعة الطريق إلى فلسطين.
ومؤكد أن «الحكيم» سيرفع صوته محتجاً، من قلب مثواه الأخير، معترضاً على إعلان رئيس «السلطة الفلسطينية» الحداد ثلاثة أيام على رحيله، وهو في الطريق إلى القدس المحتلة للقاء رئيس الحكومة الإسرائيلية بينما جماهير الفلسطينيين المجوعين بالحصار المذل يقتحمون الحدود مع مصر لشراء كفافهم من الخبز.
مات جورج حبش مرتين: الثانية لأنه دفن خارج أرض فلسطين. لكن «الوحدوي» فيه سيصبر... كما في حياته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق